انتشرت السلفية كمنهج في التفكير على العقل الإسلامي بعد القرن الرابع الهجري، فغلب تمجيد ماضي الأسلاف وقويت الرغبة في العودة لزمانهم، وتعددت أسباب ميل مجتمعاتنا إلى هذا النهج في التفكير، إذ ضعفت القدرة على الإبداع ومواكبة مستجدات الأمور، لينشد أصحاب السلفية في الماضي المجيد الأمان والطمأنينة. بدأت السلفية في الظهور بمجتمعاتنا الإسلامية مع بداية القرن الثالث الهجري، ثم ازداد صعودها في القرن الرابع والخامس حيث ثبتت أركانها تحت ضغوط الأحداث، وشهدت هذه الفترة العديد من الفتن جراء الجمود والتعصب المرتبط بهذه الطريقة في التفكير فالعقل السلفي شديد الحساسية تجاه الآخر المخالف متمترسا وراء أفكاره ورؤاه، متخذا منها قاعدة حربية لمهاجمة الآخر المخالف في المذهب والرؤية. وبحصر الفتن عبر التاريخ الإسلامي نجد أن السلفية أنتجت غالبية الفتن التي جرت أحداثها في هذه الفترة، وهو ما رصدته عديد من كتب التاريخ فخاضوا معارك ضارية مع جميع مخالفيهم حتى بين من يدينون بمذهب أهل السنة من الأشاعرة في المشرق والمغرب وشركائهم في الفقه من الشافعية وغيرهم، وكان الجامع في كل هذه الأحداث بحسب الناظر هو الإيمان المتوهم بامتلاك الحق والحقيقة. كانت الفتن تقع لأتفه الأسباب فالحنابلة السلفيون لم تكن لديهم قدرة على احتمال المخالفين لهم، حتى داخل داخل المذهب السني. يروي ابن الأثير في تاريخه: دخلت سنة ثمان وأربعين وأربعمائة، وفيها وقعت الفتنة بين الفقهاء الشافعية والحنابلة ببغداد، وقدم الحنابلة أبو علي بن الفراء، وابن التميمي، وتبعهم من العامة الجم الغفير، فأنكروا الجهر ببسم الله الرحمن الرحيم في الصلاة، والقنوت – الدعاء- في الفجر، ووصلوا إلى ديوان الخليفة، وأتى الحنابلة إلى مسجد بباب الشعير، فنهوا إمامه عن الجهر بالبسملة، فأخرج مصحفا وقال: أزيلوها من المصحف حتى لا أتلوها"، ثم تطور النزاع إلى الاقتتال، فتقوى جانب الحنابلة وتقهقر جانب الشافعية الأشاعرة، حتى أُلزموا البيوت، ولم يقدروا على حضور صلاة الجمعة ولا الجماعات، خوفا من الحنابلة. وتطور الخلاف إلى ما هو أسوأ فتحول إلى اغتيال خسيس للمخالفين. يذكر ابن الأثير في حوادث (568ه) أنهم سموا الفقيه أبو منصور البوري الشافعي فأصابه إسهال إلى أن مات من حلوى أعطاه إياه الحنابلة. يروي السبكي في طبقات الشافعية الكبرى عن الفقيه البوري، قال ابن الجوزي: قدم علينا بغداد وجلس للوعظ وأظهر مذهب الأشعري وناظر عليه وتعصب على الحنابلة، وبالغ وقال سبط ابن الجوزي، يقال إن الحنابلة دسوا عليه امرأة جاءته في الليل بصحن حلواء مسموم، وقالت هذا يا سيدي من غزلي فأكل هو وامرأته وولد صغير فأصبحوا موتى. وبنفس الطريقة قتل الأشعري الكبير ابن فورك، يروي السبكي: دعي ابن فورك إلى مدينة غزنة وجرت له بها مناظرات ولما عاد منها سم في الطريق فتوفي سنة ست وأربعمائة حميدا شهيدا. ولم يكتف المتعصبون من السلفيين بقتل خصومهم، بل تمادوا فكانوا يرفضون دفن من كان على غير مذهبهم من أهل السنة والجماعة في مقابرهم، وقد حدث بسبب ذلك فتن كثيرة. يروي سبط بن الجوزي في مرآة الزمان: وحدثت فتنة بين الحنابلة والشافعية ببغداد سنة 573 هجرية، وذلك أنه عندما تُوفي خطيب جامع المنصور محمد بن عبد الله الشافعي سنة 537 هجرية، منع الحنابلة من دفنه بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل، لأنه شافعي وليس حنبليا، اضطر الخليفة العباسي المقتفي لأمر الله (530-555ه) للتدخل، وأمر بدفن الفقيه الشافعي بمقبرة الحنابلة، فتمّ ذلك. هذه نماذج لحوادث تاريخية صاغها الجمود والتعصب، وتسببت في مقتل كثير من العلماء، وكان الخلاف بين المذاهب يصل في بعض الأحيان إلى حد الحرب، لفرض الرأي وردع الخصوم، وهو ما مازال واقعا إلى اليوم.