"سوق نوبار، راتب باشا، الحقانية"، جميعها أسماء أطلقت على السوق الملاصق لمحكمة الحقانية بالمنشية، ويضم معظم وأشهر محال لتجارة الجملة في العطارة والعلافة، وكان من ضمن زبائنه رئاسة الجمهورية، فضلاً عن محال الجزارة، والورق، والخضار، والأسماك وأقدم فرن بالمنطقة. يقول علي كحيل (تاجر عطارة بسوق نوبار من عائلة راتب باشا جد الفنان جميل راتب) إن والده استأجر المحل الذي يقف فيه هو الآن منذ عام 1954، مشيرًا إلى أن جميع العقارات الواقعة على أحد جانبي السوق بما فيها من محال ومخازن جميعها وقف لورثته، ويسدد المستأجرون قيمة الإيجار إلى المحامي الخاص بهم، لافتًا إلى أن حالة الركود الاقتصادي وارتفاع الأسعار غيرا من مجريات الأمور وخطة يوم أهالي الإسكندرية. وأضاف كحيل أن يوم الجمعة قديمًا كان يوم التبضع للأهالي، حتى إنهم أطلقوا عليه "يوم السوق"، وكان يتوافد عليه المصيفون من الأقاليم والأرياف، ولكن الوضع الآن تبدل، وأصبح من أهدأ الأيام، وكذلك الأحد؛ لأنه يوم إجازة معظم العطارين. وربط كحيل بين الركود في عملية البيع والشراء بالأسواق وبين ارتفاع الأسعار والحالة المزاجية للمواطن، حيث ارتفعت نسبة ارتياد الأسواق في بعض المناسبات الفاصلة في حياتهم والتي كانت مصدرًا للسعادة، مثل ثورة 25 يناير، وفي الفترة الأولى من حكم الرئيس السابق محمد مرسي، إلا أنه مع تقلب الحالة السياسية انخفضت معدلات الشراء، لتعود فترتفع مع 30 يونيو، ثم وتعاود الانخفاض مع إجراء العملية الانتخابية. وتابع أن "الموضوع اتقلب ورجعنا للأسوأ"، مشيرًا إلى أن بعض السلع شهدت ارتفاعًا في الأسعار تراوحت ما بين 30 إلى 35% عن العام الماضي، وأخرى زادت بنسبة 100% كالفلفل الأسود، حيث ارتفع سعره من 64 جنيه إلى 104 في سوق الجملة، بينما وصل في الأسواق الأخرى إلى 140 جنيهًا. ولفت كحيل إلى أن انخفاض الأسعار لا يصب فقط في مصلحة المواطن العادي وإنما في صالح التاجر؛ نظرًا للطبيعة الاستهلاكية للشعب المصري التي تجعله يقبل على الشراء مع انخفاض الأسعار، ويعزف عنه في حال ارتفاعها، وبالتالي يتحمل التاجر الخسائر. وأشار إلى أن سعر الفول البلدي القطاعي ارتفع من 6 جنيهات إلى 10 جنيهات للكيلو، بينما سعر الجملة يتراوح من 5 إلى 5,50 جنيهات، موضحًا أنه يختلف عن الفول الإنجليزي الذي تعتمد عليه المطاعم والمحلات. ووصف كحيل منطقة المنشية بأنها سوق الجملة المركزي بالإسكندرية، فتجمع كل تجار الميني فاتورة في شارع فرنسا، وتشهد كمنطقة تجارية كافة أنواع البضائع، ويعد سوق الميدان أرخص الأسواق في مجال العطارة. حسن جمعة أقدم وأشهر محل لبيع الأسماك بسوق نوبار، أنشئ في فترة الستينيات، وكان الرئيس السادات أشهر زبائنه، فكانت سيارة رئاسة الجمهورية تأتي بصفة مستمرة في فصل الصيف لشراء الأسماك منه، فأضفت عليه شهرة خاصة، وتوافد عليه العديد من الشخصيات الشهيرة. يعمل جمال العماوي بمحل حسن جمعة منذ عام 1979، ويصف سوق نوبار بأنه أفضل أسواق المنشية من حيث البيع والشراء وأيضًا الزبائن، والذي كان من أشهرهم بعد الرئيس جمال عبد الناصر تحية كاريوكا ومحمد نجم ومحمد رشدي ونظيم شعراوي وعماد رشاد وسهير البابلي وشيرين، وكثيرون من نجوم المجتمع، إلا أنه لم يشهد زيارة أي من المشاهير منذ سنوات، وفقد رونقه. وتابع العماوي "كل حاجة كانت في السوق، جميع أنواع الأسماك ما كانش فيه حاجة اسمها مجمدات، وكانت كلها بتيجي من البحر، كان فيه بلح البحر والجندوفلي بلدي اللي بقى بديله دلوقتي عرائس البحر، وكان المحل المفضل للعديد من مطاعم الأسماك الشهيرة". كانت خيرات البحر كثيرة، ووفقًا للعماوي كانت سيارات كبيرة تأتي محملة بمختلف أنواع المأكولات البحرية، أما الآن فتضاءلت الكميات، ومع كثرة المطاعم والقرى السياحية أصبحت تشتري الأسماك بأقل الأسعار؛ لتبيعها بأغلى الأسعار، مضيفًا "في الأول ما كانش فيه مطاعم كثير، وكان الخير كثير، ودلوقتي السمك قليل والأسعار غالية. البلطي مثلاً كان اللي معاه 10 جنيه كان يقدر ياكل، ودلوقتي بقى ب 14 جنيه، ويوصل ل 18 جنيه، والجمبري البلدي من 120 جنيه، ويصل ل 300 جنيه للجامبو، والبوري من 20 إلى 35 جنيه، السبيط بعد تنظيفه 60 جنيه، والبربون 60 جنيه، وحتى 90 جنيه". لا تختلف أسعار الأسماك في سوق راتب باشا عن غيره من الأسواق ولكن الاختلاف الحقيقي يكمن في جودتها، فبحسب بائع بأقدم محال المنشية فإنه يطلق عليه سوق الباشوات. وأوضح أن هناك مواسم معينة ينخفض فيها حجم البيع، مثل فترة الامتحانات بالمدارس والجامعات، وبعد عيد الفطر، وفي فصل الشتاء؛ بسبب برودة الطقس، على عكس الصيف الذي يشهد توافد المصيفين ممن يفضلون أكل الأسماك التي اشتهرت بها كافة المدن الساحلية، وفي شهر رمضان، حيث تكثر فيه موائد الرحمن، ويتناول الصائمون اللحوم المختلفة، ومن بينها الأسماك. وعن وضع سوق راتب باشا تحديدًا يقول العماوي "السوق ما بقاش زي زمان ولا الناس بقت زي زمان، زمان كان واسع، وكل واحد ملتزم بدكانه، وما حدش بيطلع برة الرصيف، والناس كانت بتعرف تروح وتيجي، وكان فيه نظافة، وكانت أتوبيسات بتعدي منه، دلوقتي التوك توك مش عارف يعدِّي، وده نتيجة إن الرقابة بتشوف شغلها شوية وتنام شوية". وأضاف أن حسن جمعة صاحب المحل كان عضوًا بالحزب الوطني، وحلقة السمك ما كانتش تشتغل غير لما ينزلها. زمان كان معلم له هيبة، كان رجل كبير له شخصيته، ولحد دلوقتي الناس بتيجي على اسمه". ويروي العماوي ذكرياته الأولى مع أقدم وأشهر محل لبيع الأسماك بالمنشية، فيقول إنه عندما تقدم للعمل بالمحل، كانت هناك تخصصات مختلفة، فكان هناك عامل متخصص لبيع أسماك البحر، وآخر للجمبري، وثالث للبلطي، ورابع للوقار، وهكذا، كما كان هناك صنايعي متخصص في تقطيع الأسماك الفيليه والكابوريا، وعامل للشواية. وعن أهل الإسكندرية قديمًا قال إنهم لن يعوضوا، فكانوا يمتازون بالطيبة والأخلاق العالية في التعامل مع غيرهم والاحترام المتبادل، خلافًا للوضع الحالي الذي لا يحترم فيه الطفل الكبير. كان العماوي يستفتح صباحًا برش المياه وتنظيف المحل وتحويل الراديو على إذاعة القرآن الكريم التي لم تكن تنقطع، ولكن الآن أصبح الهدوء سيد الموقف ولكنه لم يجارِ المحال الأخرى التي اتخذت من أغاني المهرجانات بديلاً عن القرآن الكريم والأغاني الطربية؛ حفاظًا على سمعته وتاريخه؛ كي لا يهتز بمثل تلك الأغنيات. وما زال سوق الحقانية إلى الآن أحد أهم أسواق الجملة بالإسكندرية، ولكن مساحته تضاءلت كثيرًا؛ بسبب انتشار تجار المواسم، وتعديات مستأجري المحلات التجارية على حرمة الطريق، وأصبحت الطرق غير ممهدة للسير خاصة في الشتاء عندما تسقط الأمطار؛ لتحدث أزمة شديدة؛ بسبب عدم رصفها وسوء شبكات الصرف الصحي، إلا أن السوق رغم كل هذا ما زال يمتاز بطابعه، والمنطقة تحتفظ بمنازلها التراثية القديمة.