وحدهم الفلسطينيون يستطيعون تحويل كوب الحليب اليومي إلى فعل مقاومة، واحتفالهم بالحياة اليومية إلى مواجهة للاحتلال، فيما يحمون كل رمز للمقاومة ولو بأرواحهم، ويخلقون عالمًا بديلًا في مواجهة هذا العالم الذي يغض النظر عن معاناتهم اليومية وصمودهم الأسطوري على أرض فلسطين، الواقع والرمز. تنوعت أشكال النضال الفلسطيني في خضم الانتفاضة الأولي، عام 1987، وكشفت عن إبداع فلسطيني في اختراع أساليب المقاومة التي لم يعرف العالم مثيلًا لها، كان منها ما عرف دوليا بانتفاضة الحليب عام 1988، حين قرر أهل بلدة بيت ساحور، جنوب الضفة الغربيةالمحتلة، المشاركة في الانتفاضة بمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، وكانت إحدى خطواتهم لتحقيق ذلك شراء 18 بقرة لتوفير الحليب لأهل المدينة ومقاطعة شركة الحليب الإسرائيلية. تشكلت لجان شعبية لإدارة شؤون البلدة، منها الزراعيّة لتعلم الناس كيفية زراعة ما يحتاجون من الخضروات في أي مساحة أرض في منازلهم، وهي صاحبة فكرة شراء الأبقار، وردًا على ذلك اقتحم 400 من جنود جيش الاحتلال المزرعة ومصادرتها، لأنه أدرك أنها ستكون أساس حملة المقاطعة الكبيرة، تمتد من بيت ساحور وتحتذي بها مدن الضفة الغربية، واعتبرها الحاكم العسكري الصهيوني في بيان أثار السخرية "تهديدًا لأمن دولة إسرائيل"، ونجح الأهالي في إخفائها بعيدًا عن عيون الاحتلال لفترة قبل أن يتم اكتشافها وإجبارهم على ذبحها. يمجد الفيلم المقاومة السلمية والعصيان المدني الذي تمثل في امتناع أهالي بيت ساحور عن دفع الضرائب "لأن سلطة الاحتلال لا تمثلنا"، ورأينا رئيس وزراء دولة الاحتلال الأسبق، إسحق رابين، وهو يهدد باستعمال القوة مع أهالي بيت ساحور بعد امتناعهم عن دفع الضرائب لسلطته. حتى تحولت مقاومة بيت ساحور إلى قضية رأي عام دولي، لتناقش الأممالمتحدة ك "غير إنساني.. أن يتم الحجز على أثاث بيوت الأهالي الممتنعين عن دفع الضرائب". ورغم المصاعب والاعتقالات التي رافقت المبادرة، إلا أنّ الشعور العام كان بالانتصار، إلى أن وقّع ياسر عرفات اتفاقيّات أوسلو. واقع غريب تحولت فيه البقرات ال18 إلى تهديد لأمن اسرائيل، تجربة وثقها المخرج الفلسطيني الشاب عامر الشوملي، الذي اختار العودة لهذا الحدث لتقديم أحد أوجه الانتفاضة بعد ربع قرن، في فيلم وثائقي طويل "المطلوبين ال18″، 75 دقيقة، إنتاج مشترك كندا/ فلسطين/ فرنسا، عرض في سينما زاوية في إطار أسبوع آفاق سينمائية الثاني، الذي ضم 14 فيلمًا وثائقيًا وروائيًا طويلًا وقصيرًا، دعمها "الصندوق العربي للفنون والثقافة/ آفاق"، وهي مبادرة عربية مستقلة تأسست عام 2007 لدعم الأفراد والمنظمات في مجالات السينما والفنون الأدائية والأدب والموسيقى والفنون البصرية، وأقيم أسبوع عروضها الأول، العام الماضي، في بيروت. الفيلم الذي شارك في إخراجه المخرج الكندي بول كوان، حاز العام الماضي جائزتي التانيت الذهبي لأفضل فيلم وثائقي طويل بمهرجان أيام قرطاج السينمائية وأفضل فيلم وثائقي بالعالم العربي بمهرجان أبوظبي. عامر الشوملي فنان متخصص في الفنون البصرية، تعود جذور عائلته إلى بيت ساحور، لكنه ولد في الشتات، بالكويت وعاش في مخيمات اللاجئين في سوريا ويقيم حاليا في رام الله، له العديد من الأعمال الفنية التشكيلية والرسوم المتحركة والكاريكاتير، أخرج فيلمين قصيرين، وهوأحد مؤسسي "زان ستوديو" في رام الله. المخرج الشاب لم يستطع اللحاق بعرض فيلمه الذي افتتح فعاليات الأسبوع، بسبب تعقيدات الحصول على تأشيرة دخول مصر، لكنه حرص على متابعة ردود أفعال الجمهور عبر سكايب. «الشوملي» كان طفلًا في المخيمات السورية خلال انتفاضة الحجارة، حين استشهد ابن عمه، انطون، في بلدة عائلته "بيت ساحور"، برصاص الاحتلال في مظاهرة وداع نظمها الشباب الثائر الرافض لاتفاقية أوسلو، التي وأدت بانتفاضة الحجارة، والتي اعتبرها كثير من المشاركين في انتفاضة الحليب بالفيلم خيانة لمقاومة ولتضحيات الشعب وصموده. يبدأ الفيلم في الصحراء، مع المخرج في عالمه الأثير، كرسام، يبحث عن أسطورة ما في حكايات الجدات عن بقرة صغيرة، سموها "يارا"، أفلتت من الذبح وهربت إلى الصحراء، فكأنها رمز لما حملته التجربة من أفكار وأحلام، يعود الشوملي إلى صحراء القدس باحثًا عن أسطورة "يارا"، ليكتشف عشرات الأساطير "الحقيقية" التي عاشها شعبه. فخلال الانتفاضة الفلسطينية الأولى، عام 1987. استطاع أهل بيت ساحور، خلال فترة حصار وإعلان حظر التجوال، خلق تعاونية تحقق الاكتفاء في الغذاء لهم، وفي أمسيات حظر التجول شكلوا رعبًا حقيقيًا لجيش الاحتلال، بإصرارهم المذهل على الاحتفاء بالحياة، في توقيت موحد مع حظر التجول، لتصدح أغنية محددة لأم كلثوم من كل البيوت، فيما يخرجون إلى شرفات منازلهم يتواصلون عبرها ويلعبون ألعاب السمر، يشربون ويأكلون، كأنهم في احتفال يومي فيما تتواصل حيرة جيش الإحتلال في مواجهة هذا النوع الغريب من المقاومة..بالحياة. مخرجا الفيلم واجها قلة المادة الأرشيفية المتاحة عن القصة الحقيقية بإطلاق الخيال لإبداعهما، كان شوملي، بداية، يريد فيلم رسوم متحركة عن الحكاية، وصمم تمثالًا لبقرة من مكعبات الخشب لتخليد ذكري انتفاضة الحليب، قبل أن يتطور المشروع، بمشاركة نظيره الكندي ويتلقيا مساهمات في التمويل من كنداوفرنسا لإنتاج الفيلم الذي تكلف مليون ومائتي ألف دولار، ما مكنه من الإستعانة بفريق فني غربي متميز. لم يطرح الفيلم شعارات وحدة الشعب وحق المقاومة، إلخ، لكنه حول مشاهدتنا لها إلى متعة. يجمع الفيلم بين توثيق شهادات المشاركين وإعادة تمثيل بعض المشاهد، وتوظيف فنون الرسم والرسوم المتحركة ولقطات وثائقية، وتضافرت فيه خبرات مخرجيه، فالكندي أحد أهم مخرجي الوثائقيات في بلده، والشوملي رسام، فقدم بالأبيض والأسود رسومًا أقرب إلى القصص المصورة، بالتناغم مع رسوم متحركة صممها بنفسه، وسلاسة الانتقال بين أساليب السرد والتعبير المختلفة، ليخرجا برسالة إنسانية بليغة، مليئة بالمرح والسخرية والحيوية، بتشويق يشعرك أنك تتابع فيلم مطاردات. كما بدأ في الصحراء، ينتهي الفيلم فيها، عبر جولة «الشوملي» متأملا في واقعه الفلسطيني اليوم، وحالمًا باسطورة تجدد الحياة والمقاومة.