"ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا كأنما يصعد في السماء" عندما مررت على هذه الآية الكريمة من سورة الأنعام توقفت عندها بعض الوقت، وبدأت أبحث في التفاسير الكلاسيكية عن معانيها، وبعد استعراض رأي أهل التفسير، حول معنى ضيقا وحرجا، توقفت مليًّا؛ لأرى الصورة واضحة أبلغ من أي تفسير، فضيق الصدر من ضيق الأفق، وضيق الأفق يجعل معرفة الخير والبحث عنه شاقًّا على الأنفس؛ كالصعود بالنسبة للجسد فمن يكون على ضلال يكون صدره ضيقًا حرجًا، وكما ورد في الرواية حين سأل عمر بن الخطاب أعرابيًّا عن معنى "حرجا" فقال له الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار التي لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء، فقال عمر: كذلك قلب المنافق لا يصل إليه شيء من الخير. حين يكون الإنسان متعصبًا لرأيه مصرًّا عليه، إما لكبر في نفسه أو علو على الناس من مراجعة موقفه أو لجهل أو لحماقة يكون "ضيقا صدره"، ولضيق الصدر علامات منها عدم القدرة على الاستماع، فهو لم ولن يصغ لمن يحاول إقناعه بغير موقفه، بل وسيشعر بنوع من الضجر كلما حاول أي شخص حتى القريب والحبيب الحديث إليه.. ومن علامات "ضيق الصدر" أيضًا العصبية المفرطة والهجوم الابتدائي، فترى صاحب الصدر الضيق متأهبا للدفاع، وكأنه يدرك جيدًا أنه متهم في عيون الآخرين، وتراه يبادر للهجوم والانتقاص من الآخرين حتى بدون مناسبة. أيضًا من علامات "ضيق الصدر" البدء في الظلم المباشر فترى من ضاق صدره متوترًا عصبيًّا، فيظلم الضعفاء ويغضب على الناس، دون أسباب وجيهة، ويبرر لنفسه ذلك بأن أحدًا لم يعد يفهمه، وأن الناس أصبحوا بعيدين عن الحق، وبعيدين عن فهم الآخرين، وأنه يعاني الوحدة بسبب أنه الوحيد الجيد في هذا العالم. هذه أهم علامات ضيق الصدر، بالطبع هناك علامات وأمارات أخرى كثيرة، نلمسها في حياتنا اليومية، لكن هذه العلامات وحدها كفيلة أن تجعل من صاحبها حين يحاول أن يصل للخير أن يكون تمامًا كراكب الصعبة، والمتسلق الذي يريد أن يصعد بجسده إلى السموات، وهو ما يعبر عنه القرآن في مكان آخر ب"سأرهقه صعودًا" فتكون احتمالية نجاح وصوله للحقيقة ضئيلة أو شبه منعدمة.. فقد افتقد للتو الأدوات كافة التي من الممكن أن تساعده في المعرفة، مستبدلًا إياها بالتبرير والهجوم وعدم الاستماع والحديث مع النفس.. إلخ، بينما من "يرد الله أن يهديه يشرح صدره" وعلامات سعة الصدر أهمها القدرة على الاستماع والإصغاء للآخرين مع ابتسامة محب ومتلق جيد يبحث عن الحق، أيًّا كان مصدره ومن أهمها الهدوء في التعامل مع الآخرين، ومن معالم سعة الصدر القوة في لين، والحنان مع الآخرين والغفران والترفع عن صغائر الأمور فيكون جهده وقتها في الوصول لمعرفة الخير والحق سهلا بسيطا لينا فيصعد بروحه إلى السموات دون عائق أو حاجز. لو اتخذنا جميعًا من أنفسنا مصداقًا لهذه الآيات لتغير حالنا ولحطمنا أصنامنا وأوثاننا التي بتنا نعبدها من دون الله، ولاستمعنا لبعضنا البعض، ولرأينا الصورة على حقيقتها ولعرفنا جيدًا أن ما تعانيه بلادنا وأوطاننا هو في حقيقته "ضيق صدورنا" الذي أدى بالضرورة ل"ضيق أفقنا" الذي أعمى أبصارنا فبتنا لا نرى ما هو واضح وجلي، بتنا لا نرى الشمس في وضح النهار، ومازلنا نكابر ونعاند، نبادر بالهجوم على من يخالفنا، ونرفض الاستماع ونظلم المستضعفين. فليقف كل منا وقفة صدق مع نفسه، ليعلم إن كان صدره منشرحًا أم ضيقًا حرجًا، ثم يعيد حساباته، فلن تتضح صورة ما نعيشه لمن كان أعمى القلب والبصيرة، وليبدأ كل منا في الاستماع والهدوء ومراجعة النفس والنظر لما يحيط به نظرة متأمل هادئ لتنكشف له حقيقته. "فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام ومن يرد أن يضله يجعل صدره ضيقًا حرجًا، كأنما يصعد في السماء كذلك يجعل الله الرجس على الذين لا يؤمنون".