بعد استجابة وزارة الثقافة لطلب علاجه على نفقة الدولة بساعات قليلة، يرحل عن عالمنا، تاركًا أثر خطوات مشواره الطويل مع الإبداع لمن يتعقبها، فضلًا عن مشاريعه اللغوية الهامة، التي ستظل تبحث عن قاريء يهمه الأمر. انتقل صباح اليوم، الخميس، إلى رحمة الخالق، الروائي الكبير سليمان فياض، بعد تردي حالته الصحية، وارتفاع نفقات علاجه، في ظل غياب الدولة عن قامة في حجمه، ذلك الكاتب الذي استطاعت أعماله المتعددة أن تشق لها مسارًا متميزًا في واقع القصة القصيرة العربية من حيث نصاعة اللغة، وعمق التناول وجدية التجربة وطرائق التعبير السردي، ويظهر ذلك منذ أعماله الأولى، إذ انتهج أسلوب التناول الواضح الحاد الذي ينأى عن الترهل اللغوي والانفعالي. أمر تجاهل الدولة حق الراحل في الرعاية لا يغتفر، لكن «البديل» ستنحي هذه الأزمة التي لم يكن «فياض» أول ضحاياها؛ لتدع فرصة للترحم على الفقيد، إذ نرصد للقراء بعض من الكتابات النقدية السابقة التي تناولت أعماله الإبداعية على مر السنوات السابقة، لباحثين ونقاد وكتاب، منهم من سبق الراحل إلى الحياة الآخرة ومنهم مازال على قيد الحياة… طلعت رضوان: طغت شهرة الإبداع الروائي والقصة القصيرة على الجانب الآخر من إبداع سليمان فياض، أي إبداعه في مجال الدراسات حول التاريخ العربي والإسلامي، إذْ له كتاب غاية في الأهمية بعنوان (الوجه الآخر للخلافة الإسلامية)، صادر عن دار ميريت للنشر عام 99 أثبت فيه -من خلال المصادر الأصلية في كتب المؤرخين العرب أنفسهم- بشاعة الحكم العربى وفق منظومة الخلافة الإسلامية. وله كتاب غاية في الأهمية أيضًا عن سيرة حياة المفكر الكبير الفارسي ابن المقفع، والذى تم اغتياله في خلافة الخليفة العباسي المنصور، إذ تم تقطيع أعضاء جسده عضوًا عضوًا ورميها فى النار، وهو حي ينظر إلى أعضائه بعينيه قبل فقئهما. لأن سليمان فياض -الإنسان والمبدع- مؤمن بالتعددية الثقافية لكل الشعوب، لذلك كان إبداعه في الرواية والقصة القصيرة والبحث التاريخى انتصارًا لهذه التعددية التي هي الوجه الحقيقي لمعنى التحضر. فاروق شوشة: فياض مشغول طيلة الوقت عن نفسه بالآخرين، يجاهد للأخذ بأيديهم ودفعهم إلى البدايات الأولى والتقاط الجوهر الحقيقي من بين الزائف المتراكم والفرح بكل ما هو أصيل وحقيقي, لقد بدأت أبوته الأدبية والابداعية تتجلي فيه منذ زمان طويل من قبل أن يصبح أبا حقيقيا في الحياة, فكان كما وصفه بحق صديقه المبدع الكبيبر بهاء طاهر في كلمته الجميلة عنه: لم يحدثنا سليمان فياض في أي من كتبه أو مقالاته عن مسيرته الصعبة في الفن وفي الحياة. هناك كتاب لا يكفون عن الحديث عن أنفسهم وعن إنجازاتهم الحقيقية أو الوهمية في الأدب, وكتاب يتاجرون بالمشاكل التي صادفتهم في الحياة أو بمواقفهم النضالية, وآخرون يطلقون كتائب للدعاية لهم وتلميع صورهم.. لم يكن سليمان واحدا من هؤلاء أبدا (وأظنه سيغضب لأني حكيت عن تطوعه مع الفدائيين في فلسطين, فهو لا يباهي بذلك أبدا)، ظل عمره كله راهبا في محراب الكلمات, لا تعنيه الشهرة ولا المجد ولا المال، يعنيه فقط أن يكتب. كما يضع يده على معضلات التركيب وقضايا الأسلوب ومشكلات الوصول إلى الدلالة والتعامل مع المعاجم العربية، وهو يقوم بجمع لغوي يتابع به ما بدأه الخليل بن أحمد في مستهل القرن الثاني الهجري، حين أراد أن يصنف معجمه العربي الأول معجم العين. وكان بوسع سليمان فياض أن يلجأ إلى فريق عمل معاون أو كمبيوتر لكنه اعتمد على قدرته الاحصائية المدهشة وجلده على العمل أياما وشهورا متواصلة ليصل في النهاية إلى جدول رياضي أو قاعدة منضبطة أو حكم يستند إلى حيثيات صحيحة, إن هذا الجهد اللغوي لسليمان فياض يؤهله ليكون واحدا من أعضاء مجمع اللغة العربية الذين سيفيدون من علمه وقدراته البحثية ونتائج دراساته. كما أنه يضيف لقامته الإبداعية في القصة والرواية قامة سامقة في مجال المعاجم والبحوث اللغوية القائمة علي وعي عصري وخبرة ابداعية ونظرة شمولية لقضايا اللغة في التعليم والإبداع والحياة. براء الخطيب: عاش "سليمان فياض" طوال حياته كمجاور فى الأزهر طالبا للعلم مهتما باللغة العربية، فعمل كخبير لغوى فى مشروع تعريب الحاسوب لبعض البرامج العربية بشركات الكومبيوتر العالمية، فهو متخرج من "كلية اللغة العربية" وكتب عشرات السير الذاتية عن علماء وأدباء العرب، فكتب كتبا عنهم مثل كتبه عن ابن النفيس، ابن الهيثم، البيرونى، جابر بن حيان، ابن البيطار، ابن بطوطة، ابن سينا، الفارابى، الخوارزمى، الإدريسى، ابن رشد، وغيرهم الكثير. كما كتب عن قضايا تهم اللغة العربية كثيرا وكتب معاجم فى اللغة العربية منها "معجم الأفعال العربية المعاصرة" و " الدليل اللغوى" و"أنظمة تصريف الأفعال العربية" و"الأفعال العربية الشاذة" و"جموع التكسير" وكتب المجموعات القصصية الجميلة مثل مجموعات قصص "عطشان يا صبايا" و"وبعدنا الطوفان" و"أحزان حزيران و"العيون" و"زمن الصمت والضباب" و"وفاة عامل مطبعة". وغيرها من الروايات الهامة فى تاريخ الرواية العربية مثل "أصوات" و"الصورة والظل" ونال الكثير من التكريمات لكنه ظل طوال عمره عازفا عن التكريمات التى غالبا ما تكون لها علاقة بالتقريظ بين المكرم ومن يتفضل عليه بالتكريم. ومن جلس دقيقة واحدة مع سليمان فياض فسوف يكتشف فيه للوهلة الأولى نماما عظيما استطاع بموهبة فذة أن يحول النميمة إلى أدب عظيم، ومازلت أحلم بأن أغلبه فى الطاولة ولو مرة واحدة فى حياتى. أبو المعاطي أبو النجا: يقف بنا سليمان فياض على حافة الهاوية لنرى نوع التوازن الدقيق الذي يحتاجه كل من يتصدى لفكرتي العدالة والحرية بالغتي التعقيد. خيري شلبي: بطل سليمان فياض ليس دائما ذلك البطل المهزوم، فعندما يتغير المكان والزمان يمكن أن تتغير طبيعة أبطالهما أيضا، فعندما نشر سليمان فياض قصص مجموعته "أحزان حزيران" في مجلة الآداب البيروتية خلال سنتى 1967 و1968 بعد هزيمة عام 1967 استطاع أن يرى بصيص النور وسط الظلمة، وأن يقدم نموذجا لهذا الرجل الذي يحس إحساسا غامضا بأنه ليس جسده وإنما هو ذاته فقط دون جسده، وهذا البطل في قصة الإنسان والأرض والموت، يحفر لنفسه خندقا يعرف جيدا أنه قد يتحول إلى قبر له، ولكنه يعرف أيضا أنه من التراب جاء وإلى التراب يعود، وهو بهذه الروح يستطيع أن يقف في مواجهة أعتى الأعداء. فاروق عبد القادر: في قصص سليمان القديمة عرفنا ولعه بالمواجهة: أن يضع القاتل في مواجهة القتيل، لكن المواجهة التى تتحقق بأكمل صورها الفنية تكتسب مدلولاتها الوطنية والقومية والإنسانية كذلك، فهو عنف صحي وصحيح، عنف القاتل في مواجهة عدوه، عنف صاحب الحق المغتصب في مواجهة مغتصب حقه، عنف صاحب الأرض الضائعة لاستردادها منتصرا أو شهيدا.