عن فراشات الثورة الذين رحلوا سعيًا وراء النور، شهدائها الحالمين، وفي ظل أجواء الثورة المضادة وحملات تشويه ثورة 25 يناير ورموزها، وعار أحكام براءة القتلة وضياع دم الشهداء، تنشط المخرجة أمل رمسيس الذاكرة الوطنية بفيلمها التسجيلي الطويل "آثر الفراشة"، الذي شهد مسرح الفلكي عرضه الأول، الأسبوع الماضي. مجزرة ماسبيرو، التي خلفت 27 شهيداً قبطيا. منهم جيفارا الثورة المصرية «مينا دانيال»، الذي حمل هذا اللقب لعشقه لشخصية جيفارا، ولأنه رحل يوم 9 أكتوبر 2011، في ذات اليوم الذي رحل فيه أيقونة النضال العالمية عام 1967. عن هذه المجزرة وبمشاهد توثيقية لمظاهرات سبقتها، ولألام أهالي الشهداء. وبمشهد مؤثر، له دلالاته، يبدأ آثر الفراشة، إذ نرى شهيدًا يرثي شهيدًا، نرى مشروع الشهيد الحسيني أبوضيف، صديقه الصحفي الذي لحق به في مذبحة الاتحادية، والتي تمر ذكراها ديسمبر الجاري، يرثي الشهيد مينا، ويصلي في حجرته في أول إفطار رمضاني يقام في بيت دانيال، احتفالًا بمولده. أيضًا نري الثورة بعيون ماري، شقيقة مينا، التي صاحبتها المخرجة في موجات الثورة اللاحقة، على مدار عامين حافلين بإحباطات وانتصارات ومزيد من الفقد، لتنتهي أحداث الفيلم فيما بعد 30 يونيو. المخرجة جذبتها قوة الفتاة القبطية التقليدية، التي رفضت الإدعاء بأن شقيقها مات بالسكتة، ولكن بالرصاص، ضمن شهداء مجزرة ماسبير، محملة مسئوليتها للمجلس العسكري الحاكم آنذاك. لكاميرا أمل، تفتح ماري عالمها لنري ما هو أعمق تحت السطح من مآسينا: الفتاة القبطية التي أرغمها أهلها على زواج لا يعرف الطلاق إلا لعلة الزنا، وعمرها 26 عامًا، وانقلبت حياتها رأسًا على عقد بعد استشهاد شقيقها، بل إنها بدأت حياة جديدة وأنهت أخرى بعد أن دخول «عالم مينا دانيال» الذي كانت ترقبه عن بعد في حياته، لتخرج في كل التظاهرات حاملة علمًا أحمرًا يطل منه مينا على الميادين ويتقدم المظاهرات، مع علم الوطن، وتنفصل عن زوجها رغم إرادة عائلتها لتعيد مأساتها الشخصية.. فقد مينا، تشكيل حياتها، وعمليًا انعتاقها من سجن متعدد الأسوار من التقاليد الاجتماعية والقوانين الكنسية المجحفة وغيرها. كما تحدثنا عن مينا كابن أكثر منه أخ صغير، ولد على يديها وهي التي لم تنجب وكانت تكبره ب 20 عامًا حينما ولد هو، ربته وأحبته.. تقول "مينا غير حياتي وخلاني أعيش". سور ثان حطمته التجربة التي "أدخلتها فيها يد الرب"، بعد أن كانت "مسيحية طائفية، قبل استشهاد مينا" حسب قولها. إذ أن أفكارها تغيرت جميعها بعد رحيله، وتمحورت حياتها حول أهداف الثورة، واقتربت من أصدقاء شقيقها ورفاقه في الميدان؛ هنا تحكي «ماري» كيف صار أقربهم إليها أصدقاؤه المسلمون. تضيف: لم أعد أرى الناس وفق ديانتهم". تقول: "مالناش ثأر، لنا حق.. أن ترجع مصر لأولادها". وتحكي عن اثنان من رفاقه حملا علمه واقتحما به الاشتباكات والصفوف الأولي، ولم يصابا إلا بسيطًا "كان مينا ملاكهم الحارس" كما قالت ماري. يحكي طارق الطيب، أحد حاملي العلم، كيف قابل مينا لأول مرة في مدخل شارع محمد محمود، في ذات المكان الذي رسمت فيه صورته فيما بعد شهيدًا، وكيف غيرت علاقته به حياته وأفكاره، لتخضع أحلامه الخاصة لصالح حلم نجاح الثورة وتحقق أهدافها. الفيلم يعتمد كليًا على حركة الشارع، تبدأ مشاهده الأولى على إيقاع مسيرة الجماهير، دون صوت، فيما تنبح في الخلفية كلاب من بعيد، في استلهام لحلم حكاه مينا لشقيقته عن كلاب تهاجمه فيستنجد برجال الشرطة ليكتشف أنهم هم من أطلقوها لمهاجمته. يتواصل التوثيق، صوتًا وصورةً، لمشاهد من المظاهرات بالقاهرة، وهتافاتها المختلفة، التي تحلق مع أسماء الشهداء مينا، الجندي، الحسيني، الشيخ عماد، جيكا.. بصوت أنثوي. أرادت أمل رمسيس أن تحكي قصة ماري، وتحولات الثورة ومأساة فقد مينا، كنموذج لمسلمات ومسيحيات تغيرت حياتهن بفعل الثورة، لكن الفيلم عند اكتماله وعرضه في الظرف الذي نعيشه، ومحاولات تشويه ثورة يناير، اكتسب بعدًا آخرًا باعتباره "توثيقًا.. حتى لا ننسي".. محذرة: "ذاكرتنا ضعيفة، ويسعي آخرون لإجبارنا على نسيان ما لا يجب أن ننساه من دروس الثورة، وأهدافها وحقوق شهدائها". قالت أن كاميرتها تتبعت حركة الناس في الشارع، ضد المجلس العسكري ثم ضد الإخوان. توضح: "المهم هو حركة الناس، لأن هؤلاء البسطاء هم من يحدثون التغيير بالفعل". بالنسبة لماري، رحيل مينا يمثل نهاية حياة وبداية أخرى. عالم بديل وجدت نفسها فيه، ليس فقط في تفاصيل شقيقها الراحل ولكن الأهم في رفاقه والانحياز إلى حلمه بالحرية والعدالة وإنصاف الفقراء الذي تبنته هي الأخرى وصارت تعيش من أجله، كفراشة يجذبها بريق النار.