- لا إنسان أمام آلة القتل.. ولا إنسانية خلفها -واقعنا مسرح كبير.. قد لا يتسع أحيانًا لصراخ الممثلين من بلد لآخر، لاجئًا يعيش، من أرض الزيتون إلى الأفئدة الشامية دمشق وبيروت، يحمل في قلبه الحلم، وفي عقله يرسم طريق العودة للبلاد الأسيرة، يغني مع الراحل أحمد فؤاد نجم: «الغربة طالت كفايا/ والصحرا أنّت من اللاجئين والضحايا/ والأرض حنت للفلاحين والسقايا/ والثورة غاية والنصر أول خطاكوا». بسام جميل، الكاتب والروائي والمسرحي الفلسطيني، نشأ بالقرب من مخيم اليرموك في سوريا، عاش اللجوء منذ ميلاده، وغادر أرض الياسمين بعدما تصاعدت حدة أعمال العنف هناك، ليبدأ حياة جديدة في لبنان، والقلب ينبض بعبق الذاكرة، ذاكرة جده وأبيه عن حطين، قريته التي تحمل ما تحمل من معانٍ. عنه وعن مخيم اليرموك، لديه الكثير ليحكيه: ظروف الانتقال من فلسطين، تأثر المنطقة بالأزمة السورية.. استمعت له «البديل» فقال: اليرموك عاصمة الشتات بامتياز، لم أغادره ولم يغادرني، بهذه البساطة، رغم أنني لست من سكانه بل من سكان منطقة تجاوره وتضم مجموعة من العائلات الفلسطينية، إلا أن هذا الأمر أعده أول لجوء أعيشه بوعي، حيث المسافة بين منزلي وأكبر مخيم فلسطيني في سوريا لا تتجاوز الكيلو مترات القليلة، وما ارتباطي به إلا لما يمثله في الوعي الجمعي للفلسطيني، الذي وجد نفسه لاجئًا منذ ولادته في بلاد كانت له الأم الرؤوف. «المخيم».. ذلك المجهول الذي مشى إليه الفلسطيني بقدميه مرغمًا، إبان جرح النكبة، هو صورة لوطن ومنفى، ومسرحًا لأحلام مسروقة، عنه قال شعرًا الراحل معين بسيسو: «تلك البقية من شعبي ومن بلدي.. ما بين باك ومجنون ومرتعد»، ويحكي «جميل»: يوجد الكثير من المخيمات في سوريا، وأيضًا تجمعات صغيرة للفلسطينيين، لكن هذا لا يعني أبدًا أن سوريا كوطن كانت تحاول أن تثبت وجود المخيم داخل الفرد الفلسطيني كأمر نهائي، بل -وهنا أقول ما لي وما علي- أن اليرموك والحالة الفلسطينية المتفردة في سوريا ما كانت لتكون بهذه القوة والنزعة داخلنا، لو أننا شعرنا بالاغتراب حقًا أو الحيرة أحيانًا. لم نكن مطالبين بإظهار نزعة انتماء حادة لسوريا كوطن حضننا، لكننا بأية حال كنا كذلك بالممارسة اليومية، إذ لنا كل ما للسوري من حقوق وواجبات، أيضًا تمسكنا بقضيتنا لم يكن بالصعب في بلد عرفناه داعمًا لها بكليته، وعلى جميع الأصعدة، نسأل أنفسنا الآن، هل خدعنا؟! هل كانت فلسطين أقل مما ظنناه في وعي وقرار الشعب والحاكم؟! ما الذي حدث حقًا وهل ما نراه الآن هو ثمن ما لم نعيه بماهيته الضبابية قبل الآن؟! هذه الأسئلة والكثير غيرها، تدفعني لأكتب وأسأل، من هنا بدأت أكتب عن المدينة، وعن حضورنا فيها وغيابنا أيضًا. أو كما قال سابقًا: «لا يغيب ضياءك بل بصيرتي هي التي تنوء عنه، لتدرك التجلي والبهاء، لتلهمهم في العتمة وأن لابد من حرمان ليهتدي المحروم للإيمان»، أو كما يراه الشاعر عبد اللطيف عقل «ينام المخيم/ لا وقت للنوم، لا نوم للوقت/ تختلط الأم بالطفل واللحم بالفحم/ والزيت بالموت، والصحو بالقبو». نعيد على «جميل» سؤاله: «ماذا تريد إسرائيل من هجرة الفلسطينيين من سورياولبنان؟! ماذا يريد البعض من اختيار خطوط هجرة جديدة "لبنان، السودان، ليبيا" ثم الاعتقال من جماعات ليبية مسلحة بهدف الاتجار بالمعتقلين الفلسطينيين؟! ونسأله كيف يمكن وقف هذا المشروع الصهيوني؟ ليجيب: بل هل يمكن أن نوقف هذا المشروع بما لدينا الآن من إمكانات شبه معدومة؟! القلق يتزايد بازياد انكشاف الأقنعة، لكن الأمر متشابك حتى أصبح شبكة عنكبوت، ورغم أنها واهنة ضعيفة إلا أننا ما زلنا أضعف من أن نكشف مسار كل خيوطها، لا يمكن أن أطرح حلًا جذريًا للمشكلة، خصوصًا أن البلاد تضيق بالمواطن العربي، فكيف بلاجئ يقيم معه ذات الوجع ويتشظى به دون أن يرى مستقبلًا واضح المعالم ولو كان لأيام قليلة قادمة؟! التضييق والتهجير والهروب من القتل والفظائع لا تعرف هوية، فالأمر بالأصل أن لا إنسان أمام آلة القتل، ولا إنسانية خلفها، لنقل أن مصير الفلسطيني داخل البلاد التي يصيبها وباء الحرب، هو ذاته مصير المواطن المضيف، وهذا المصير لحظي آني ومرحلي، لكن ما يخيفنا هو ما يجعل لمصير الفلسطيني على المدى الأبعد ضبابي، بل معتم للغاية». يزعمون أن «فلسطينيو الشتات» نسوا الوطن، وتحركاتهم في الشتات لا تختلف عن التضامن الذي أبداه معظم الشعب العربي مع الانتفاضة والقضية الفلسطينية، ويرد عليهم صاحب رواية «سيرتي المتخيلة»: لنزعم أن دماء أبناءنا في أكثر من مرحلة نضالية لا تعدو كونها دعاء يطلقه شيخ في جامع ببلد شقيق، وربما يكون هذا الزعم، كلمات ثورية رنانة في خطاب لليسار العربي في ذات البلد الشقيق، هل يعرفون كم من الشهداء نقدم؟ وهل يعرفون كيف يكون النضال وخوض المعارك حقًا؟ في الشتات، لا تكفي الرغبة، بل تحتاج للقدرة، وهنا أقول إننا شعب يقدم مضربًا للأمثال بقدرته على التجديد وصناعة الأدوات اللازمة للصمود. ويعطي مثلًا عن انتصار أو ربما صمود قريب: «في غزة، لم يكن للصمود أن يطول لولا من هم في الشتات بما قدموه ويقدموه كل يوم من سبل لدعم هذا النضال على الأرض، أما عن رغبة الشباب فنرى فيما حدث أثناء بداية الإضرابات في سوريا مثلًا جيدًا لما هم مستعدون لتقديمه، إذ توجهت أعداد كبيرة من الاجئين إلى الحدود في دول الطوق (سوريا، لبنان، الأردن)، واستطاع بعضهم أن يعبر الحدود في مواجهة الجسد ضد آلة القتل، وكان لنا شهداء، هل هذا يكفي أم عليَّ أن أتحدث عن جهاد يملك بصيرة آلهة في سوريا والعراق ولا يملك حتى أذنًا ليسمع صرخات من يحمون الأقصى هذه الأيام؟! كانت مجرد مسابقة للشعر ورغم ذلك، أعادته إلى الوطن، إذ فاز يناير الماضي في مسابقة ملتقى الأدباء الفلسطيني للإبداع، ليؤكد أن «الأمر ليس مجرد فوز معنوي بمسابقة، لكنه معنوي من حيث أن الاجيء لا يحق له أن يحمل وثيقة تحمل اسم بلاده، رغم تحفظي مثلًا على كيان ما يسمى "السلطة" الفلسطينية، إلا أن في شهادة التقدير كتب "دولة فلسطين"، وهذا أكثر من كافٍ بالنسبة لي، وهو أمر منحني دفئًا خالصًا بغض النظر عن المسابقة وقيمتها». لم يكن بطل روايته «سيرتي المتخيلة»، التي توثق لأوجه مختلفة من مآسي الحروب والصراعات وانعكاساتها على الذات وعلى مصائر البشر، وتدور أحداثها حول حياة شاب فلسطيني مولود بداية التسعينيات في مخيم اليرموك في العاصمة السورية، والذي تقطنه أغلبية من اللاجئين الفلسطينيين، لكن ماذا لو كان «بسام جميل» أستراليًا، هل كان سيكتب رواية عن المخيم؟ «جميل»: ربما خلقت أشكالًا لصراع، تتداخل فيها الذات بين التوثيقي والمتخيل، ماذا لو كان "همنغوي" برازيليًا مثلًا، أو أن "أوغستو مونتيروسو" بنغاليًا، لن أكتب عن اليرموك، لكنني بكل تأكيد سأكتب عن الإنسان الحاضر هناك، والذي لن يختلف كثيرًا بصراعه مع الذات والبيئة عنا نحن هنا، فالأمر ليس بجغرافية المكان بل بإنسانية الكيان. عن أعماله الأدبية قالت القاصة جميلة عمايرة إنها "مسرح معتم وعبثي يقتل الممثلين والجمهور بضربة واحدة، أو هي طلقة لا تخطىء هدفها! تمتاز بواقع فانتازي"، وكأنه يحاول التغلب على تيمات الاغتراب في عوالم كتاباته بحلول فانتازية، لكنه يؤكد: لم تكن فنتازية بالمعنى التخييلي، بل بخلق الحاجة لقراءات متعددة، في القصة القصيرة نعني بالمفارقة التهكمية أحيانًا والجدية العميقة والسخرية اللاذعة، لكن الأهم على الإطلاق هو مشاركة القاريء برفض عدة قراءات للنص، والتمكن من ترسيخ حالة من الندية بإجابات تطرح كأسئلة أو مشهد. يرغب صاحب مسرحية «تحت سماء قليلة» بالكتابة للمسرح مجددًا، على أن يراه ماثلًا على خشبة الفن الرابع، ويقول إن واقعنا مسرح كبير قد لا يتسع أحيانًا لصراخ الممثلين.. أنهى رواية قصيرة بعنوان «ظلها»، ويرجو أن ترى النور في القريب، ولديه مجموعة قصصية بعنوان «مسرح للغياب» قيد النشر، كما يشغله عمل روائي جديد يتلمس وضوح رؤياه، ويظن أنه سيتمهل في إنجازه، إذ يرجو أن يكون نقلة نوعية له. صاحب قصص «دمشق واسمي» يرى المقاومة على أنها «فكرة تدافع عن فكرة، ولم تكن يومًا وسيلة بالمعنى الحسي، فالمقاومة بدأت بكلمة "لا" لكن قرارًا خلفها لذا ستبقى فكرة رغم تجلياتها الحسية وهذا ما أراه يهتز هذه الأيام».. إذن ما هي الوسيلة لتحرير الأرض والعودة إلى الوطن؟ «جميل»: لماذا اهتزت الفكرة فجعلت المقاومة فعل يستوجب الوقوف عنده؟! لم تهتز بل من يمارسها مكنته رغباته من قولبتها بسلطة امتلكها، ففرض الفعل على الجمهور، هل المقاومة تساوي مفهوم الجهاد؟ وهل مفهوم الأخير يساوي قوة الفكرة؟ لا أريد الدخول في تحليل فلسفي، لكن ما يجعلنا نقلق هو قدرة الأيدلوجيات الفكرية على اختراق الوعي الجمعي بقوة الآلة الحربية الإعلامية، وما نراه اليوم على الأرض يجعل من الصعب أن نوصل الوعي الجمعي إلى قواعد ثابتة، تجعل من نتائج الأفعال مساوية لمصداقية الفكرة والمقاومة كمثل. «العالم المتغير حولنا وبالسرعة التي يتغير فيها يمنحنا بعض الأمل، فهناك على الأرض ما زالت الفكرة في مكان ما تحافظ على نقاءها، وستبلغ أن تنتفض، وهذا خيار لم يعد متاحًا كأرجحة، بل البداية في ربيع حقيقي من الداخل الفلسطيني المحتل، ولابد من انتفاضة عارمة تصوب المسار».. أو كما قال أبو القاسم الشابي في «لحن الحياة»: ومن يتهيب صعود الجبال/ يعش أبد الدهر بين الحفر. يسأل في «سيرتي المتخيلة»: إذا خيرت بين أمرين، أن تعود للشام لسابق عهدها أو أن تعود أنت لفلسطين، ماذا ستختار؟ نعيد عليه سؤاله أو متى يعود «بسام جميل» إلى فلسطين؟ فيقول في ختام الحوار: "شام المجد أنتِ المجد لم يغب"، ثم يتبعها صرخة النشيد "فدائي يا أرضي"، بين لحنين أردد صلاتي.. هنا وهناك أكون عائدًا.. فلسطين هي السلام وهذا ما تفتقده دمشق والكثير من العواصم العربية.. أعود بالسلام، إلى دمشق وإلى القدس في آن.