حسم الرسول (ص) قضية مدعي الثورة باسم الدين و"رافعي المصاحف" في حياته، وقبل وقوعها للمرة الأولى بأكثر من ثلاث عقود! حين قال "إن منكم من يقاتل على تأويل القرآن كما قاتلت على تنزيله"، فاستشرف الصحابة كلهم يتمنى أن يكون المقصود فقال لهم النبي "لا ولكن خاصف النعل"، يعني بها الإمام "علي بن أبي طالب"، والذي كان ساعتها يخصف نعل النبي (الألباني في السلسلة الصحيحة حديث رقم 2487). هكذا بشر النبي "عليا" بمهمته! فجاء التاريخ مصداقا لقول النبي (ص)!! ومازالت الأحداث مصداقا لقوله الشريف حتى يوم الناس هذا! ولقد حامت أقلام كثيرة حول الموضوع بعد دعوة جماعات اليمين الديني لما أسموه "ثورة الشباب المسلم" أو "ثورة رفع المصاحف" دون أن توفي الأمر حقه، وهو ما أتمنى فيه هنا بعض التوفيق. لنتابع معا مسيرة التأويل المضلل للدين والقرآن والحرب عليه في تاريخنا الخدعة الأولى: رفع المصاحف بعيد اغتيال الخليفة "عثمان بن عفان"، تذرع "معاوية" وبنو أمية بتأويل القرآن لخدمة أغراض سلطوية بحتة، فرفعوا شعار القصاص من قتلة "عثمان"، واتهموا "عليا" بالتقصير فيه، وهم يعلمون باستحالة تعيين القاتل في ظل حالة التمرد والفوضى التي اغتيل خلالها الخليفة، والمفارقة أن معاوية لم يقتص أبدا من قتلة عثمان حين صار خليفة، ولكنه مع ذلك ادعى أنه أولى بالخلافة من "علي" لأنه ولي دم "عثمان"، متأولا الآية الكريمة "ومن قتل مظلوما فقد جعلنا لوليه سلطانا فلا يسرف في القتل إنه كان منصورا"، فجعل "سلطان" ولي الدم هو الحكم والخلافة، بينما المعروف أنه سلطة القصاص من القاتل! ورفع الأمويون المصاحف في معركة صفين عام 37ه، بعد أن أوشكوا على الهزيمة، ليوقعوا الشقاق في جيش الإمام "علي"، وتحقق لهم ذلك بفضل طابورهم الخامس من الخوارج، الذين قالوا "إنزل على حكم الله وكتاب الله يا علي"، كأنهم أعلم بحكم الله من إمام المتقين. ثم جرى ما جرى من أمر التحكيم والخدعة الشهيرة فيه، فكانت خدعة رفع المصاحف هي بداية النهاية لدولة الخلافة الراشدة، وبداية الملك الأموي. الخدعة الثانية: اعتصام "النهروان" .. وشعار "إن الحكم إلا لله" انشق الطابور الخامس من الخوارج عن جيش "علي"، فرفعوا لواء "الثورة الإسلامية" وعسكروا في النهروان، وجعلوا شعارهم "إن الحكم إلا لله"، وكفروا الإمام "علي بن أبي طالب" كما كفروا "معاوية بن أبي سفيان"! لكنهم أبدا لم يتحرشوا بمعاوية ولم يمارسوا عنفا بحق جيشه، وإنما تحرشوا بأتباع "علي"، فأنذرهم الإمام من مغبة أعمالهم، وأرسل "عبد الله بن عباس" يحاورهم دون جدوى! حتى قتلوا "عبد الله بن خباب بن الأرت" التابعي وابن الصحابي، كما قتلوا زوجته الحبلى وبقروا بطنها، ووضعوا رأسيهما فوق الرماح، لمجرد أنهما رفضا أن ينطقا بتكفير "علي". فخرج لهم كريم الوجه بجيشه، وكانت وقعة النهروان ، فلم ينج من اعتصام الخوارج ذاك إلا سبعة فروا من المعركة! وكان أحدهم "عبد الرحمن بن ملجم"! الخدعة الثالثة: الله أكبر! الحكم لله يا علي! اتفق ثلاثة من الخوارج على قتل "علي" و"معاوية" و"عمرو بن العاص" في ليلة واحدة، وخلال صلاة الفجر! وأن "عبد الرحمن بن ملجم" نجح في قتل الإمام "علي" وهو ساجد بمحراب مسجد الكوفة، وهو يقول "الله أكبر .. الحكم لله يا علي"!!! بينما فشل صاحباه في مهمتيهما! وبغض النظر عن رأيي الشخصي فيما روته كتب التاريخ والسير وارتيابي في بعض تفاصيل تلك المؤامرة الثلاثية، ورأيي الدائم في كون الخوارج الحرورية طابور خامس للأمويين، حيث ادعوا عداءهم، ومع ذلك لم يصيبوهم أبدا بشر، فالدرس الأهم هو تكفير "إمام المتقين" واستحلال دمه، فأي دم بعده يبقى حراما عند هؤلاء المخابيل؟ الخدعة الرابعة: ثورة إسلامية انتهت بسرقة الحجر الأسود ثورة القرامطة والدولة التي أسسوها تعتبر دليلا على توظيف الدين والدعوات المذهبية في خدمة السياسة والطموح للسلطة! فقد استغلت دعوة القرامطة المظالم الاجتماعية للدولة العباسية، حتى أسسوا دولتهم في البحرين! لكنهم بعد ذلك ناصبوا الخلافة الفاطمية العداء والبغضاء رغم توحدهم تحت لواء المذهب الشيعي الإسماعيلي! الأمر ليس دينيا ولا مذهبيا إذا! والدين ليس إلا خلفية جيدة لإدارة الصراع السياسي! واجتذاب الأتباع! وقد يقتضي الإنصاف أن نقول بأن القرامطة حرصوا في دولتهم على العدل الاجتماعي وتقسيم الثروة لحد بعيد، كما أن اتهامات الإباحية وإسقاط العبادات التي تحفل بها كتب تراثنا لا نجد لها أساسا! لكن آفة تلك الجماعة كغيرها من جماعات العنف الديني كانت غرور القوة، ومنهج الإكراه في الدين، حتى وصل الأمر لقتل الحجيج في مكة على يد زعيمهم "أبي طاهر الجنابي"، بل وسرقة الحجر الأسود ونقله للبحرين حيث لبث هناك 22 عاما! وكانت لهم في كل ذلك تأويلاتهم المنحرفة للدين! الخدعة الخامسة: اقتحام السجون والكفر للجميع في ثورة الأزارقة كان الخارجي "نافع بن الأزرق" ومن معه يكفرون كل المسلمين من غير جماعتهم التي لم تتجاوز بضعة آلاف، بل ويكفرون من يشاركهم عقيدتهم ولكنه لم يهاجر إليهم ويقاتل معهم! واستمروا كأسلافهم في تكفير الإمام "علي"، وفي غواية التأويل الأعوج، فادعوا أن قوله تعالى "ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام"، وقالوا أن قاتله "ابن ملجم" كان على حق، وأن الآية الكريمة "ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله" نزلت في قاتل الإمام (لم يكن قد ولد وقت نزولها طبعا)!! وقد قاموا بثورة عنف وقتل في البصرة عام 64ه، و"بدأوها باقتحام السجون وتكسير أبوابها وإخراج من فيها"، فمن انضم لهم فذاك، ومن رفض من المساجين المحررين أن ينضم إليهم قتلوه! ثم خرجوا متجهين للأهواز، فأقاموا بها يعيثون فسادا لبعض الوقت حتى قتل زعيمهم "نافع" فانفرط عقدهم. قصدت في هذا العرض أن أبين أن كل ما نشاهده اليوم، من حيلة رفع المصاحف، لحيلة تكفير الحاكم وتكفير المجتمع، للتكبير على قتل الأبرياء، لدعوات اقتحام السجون، كلها تراث قديم يتوارثه هؤلاء ولا يأتون بجديد أبدا! فقد جمعوا في تكوينهم الفكري والعقائدي والأخلاقي بين انحراف الخوارج في فكرهم الديني، وبين أطماع الأمويين في منهجهم الدنيوي! وبين سرية الدعوات الباطنية كالقرامطة وغيرهم! ألا تراهم يبررون أفعال الخوارج ويلتمسون لهم الأعذار، كما يبررون ويلتمسون لبني أمية! هؤلاء هم سلفهم الحقيقي الذي على دربه يمضون! وختاما، قد تبدوا الأحداث أليمة، لكنها البشرى على الأمد البعيد، فلسوف يخرج العالم العربي من هذا الآتون وقد تخلص من الآفات الفكرية التي غرست في جسده منذ عشرينيات القرن العشرين، وارتفع شأنها بتحالف مؤقت مع الدولة في السبعينيات، ثم غض الدولة الطرف عنها منذ الثمانينيات وحتى ثورة الثلاثين من يونيو! هذا الآتون سوف يطهرنا ولو طال الأمد، وسوف تنتهي تلك الأفكار إلى حيث تنتمي في مزبلة التاريخ. المهم أن ندرك خطورة المعركة ونجند أنفسنا لها فكريا وذهنيا، وأن نكف عن "العنة الفكرية" في التعامل مع التكفيريين. لأنها معركة وجودنا ذاته!