ربما لا توجد في حاضرنا دولة محورية يقف مستقبلها على حياة ومصير شخص واحد مثل السعودية، فالمملكة تواجه منذ سنوات معركة لن تنتصر فيها؛ وهي كبر سن حاكمها الحالي وموت متكرر أو عجز بحكم التقدم في السن لولاة عهدها، بالإضافة إلى صراع سمته الصمت والترقب بين أجنحة العائلة المالكة، والتي تتعدد وتتشابك وتتبدل مصالحها بوتيرة سريعة بحيث تتعقد صورة مستقبل المملكة السياسي. ويلح التساؤل حول ما إذا كان نظام الحكم في السعودية سيستمر كما هو –حتى بأزماته- أم ستتدخل المملكة في أزمة قد تكون الأول من نوعها في تاريخ آل سعود، وقد يطول أمدها بسبب الخلافات حول ماهية الملك القادم، خاصة مع غياب إطار قانوني أو دستوري لكيفية انتقال الحكم في المملكة إلى الجيل الثاني من آل سعود، حيث أعتاد الحكم أن ينتقل بين أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود من أخ إلى أخيه، سواء كان من السديريين الذين حازوا على نفوذ أوسع وأهمية أكبر وسط أبناء بن سعود خلال العقود الماضية، أو من سواهم من زوجات أخريات، والفارق هنا أيضاً أن أمر انتقال الحكم يرتبط أولاً وأخيراً بالملك الحالي عبد الله بن سعود (91 عام)، الذي يعاني من أزمات صحية مزمنة ويبتعد عن المملكة للعلاج أو النقاهة معظم شهور السنة، والذي توفي أثنين من ولاة العهد أثناء فترة حكمه، هما سلطان بن عبد العزيز، ونايف بن عبد العزيز، وحاليا يتولى المنصب سلمان بن عبد العزيز (79عام) والذي يعاني من أمراض عدّة أحدها مرض "الزهايمر"، وتدل قرارات الملك مؤخراً على أنه يسعى لتهميش دور سلمان وأبناءه، وكذلك أبناء وليِّ عهده الأسبق سلطان بن عبد العزيز، وفي هذا الصدد يذكر الكاتب والباحث المتخصص في الشأن السعودي، سايمون هاندرسون، في مقال له بمجلة فورين بوليسي الأميركية نُشر في يوليو الماضي، أن "هناك فرصة للملك عبد الله لإكمال تهميش سلمان، وهو الأمر البادئ منذ مطلع 2013، عندما عين الملك اخوه غير الشقيق مقرن بن عبد العزيز نائبا ثانيا لرئيس مجلس الوزراء، مما سمح للأخير ترأس مجلس الوزراء في اوقات غياب الملك وولي العهد، وفي مارس الماضي مُنح مقرن لقب جديد هو "وليُّ وليِّ العهد"، تمهيداً ليصبح ملكاً حين وفاة سلمان وعبدالله او تنحيهما للعجز الصحي. وحاول الملك تدعيم قراره هذا بإجبار كبار ابناء عبد العزيز بن سعود بأداء قسم مبايعة مقرن، وقام معظمهم بذلك، والذي رفضوا لهم اهمية خاصة ستظهرها الأيام. هذا الالتزام سيترجم عمليا مستقبلا والتوقعات هي أنه في حالة وفاة الملك عبد الله قبل سلمان سيدعم محبو الأخير مجيئه للسلطة ليعين ولي عهد له غير مقرن(..)وحتى اذا استطاع الملك عبد الله اتخاذ خطوة جريئة بعزل سلمان بسبب عجزه عن ادارة وزارة الدفاع او لحالته الذهنية المتدهورة، فأن فرصة ترقية مقرن كولي للعهد تبقى ضئيلة، كونه ابن لعبد العزيز بن سعود من محظية، ومع التحديات التي تواجه البلاد وتاريخ سلمان في ازعاج باقي ابناء عبد العزيز الذين قد ينحازوا له على حساب تصعيد مقرن قد يكون الوقت مناسباً لإعلانه ملكا". ويلح السؤال بشدة عن ماهية الحاكم القادم للسعودية وكيفية انتقال الحكم إلية منذ العام الماضي، فبالإضافة لعوامل مثل شيخوخة الملك ووليِّ عهده ومرضهما، فأن عبد الله منذ العام الماضي تجاوز في قراراته المتعلقة بتعيين أو نقل أو إعفاء أو استحداث مناصب في المملكة للآلية التي وضعها بنفسه في أوائل سنوات حكمه وهي هيئة البيعة المختصة باختيار الملك وولي العهد وتتكون من أبناء الملك المؤسس وأحفاده.أهم هذه القرارات هو استحداث منصب "وليُّ وليِّ العهد" وتوليته للأمير مقرن بن عبد العزيز (69 عام) أصغر أبناء الملك المؤسس عبد العزيز بن سعود من غير السديريين -مثله مثل الملك عبد الله- بخلاف كونه من أم يمنية الأصل كانت مِلك يمين للملك عبد العزيز، متجاوزاً الأمير أحمد بن عبد العزيز الأكبر سناً (71عام) والذي ينتمي إلى السديريين، والذي سبق أن أُطيح به من منصب وزير الداخلية عام 2012، مما فاقم الخلاف داخل الأسرة الحاكمة، وخاصة من جانب جناح السديريين وأبناءهم. وأيضاً لحركة التنقلات والتعيينات والإعفاءات في مناصب حساسة داخل المملكة في الداخلية والدفاع والاستخبارات، ترجمها البعض أنها تهدف لتقليص نفوذ وقوة السديريين وأبناءهم لحساب الأمير متعب بن عبد الله (61عام) والذي قفز بخطوات واسعة نحو نفوذ أكبر، حيث تولى وزارة الحرس الوطني، وبتعين مقرن ومرض سلمان يصبح منصب ولاية العهد قريب من متعب بعد وفاة عبدالله وتولية مقرن الملك، وهو ما يعني انتقال الحكم بالوراثة كمعظم ممالك العالم إلى الجيل الثاني، ولكن مع حصره في آل عبد الله بن سعود متجاهلا السديريين وأبناءهم، وكذلك أبناء عبد العزيز الباقيين، وأيضاً أبناء السديريين وأحفاد الملك عبد العزيز، وخاصة أبناء الملك فيصل وأحفادهم. أي اختصارا هناك ثلاثة أجنحة رئيسية داخل آل سعود متحفزة لساعة وفاة الملك عبد الله ورد فعل كل جناح منهم سيبنى على القرارات الأخيرة للملك والتي ربما يكون منها إعفاء سلمان من منصبه لدواعي صحية وبالتالي صعود مقرن مكانة وتولي متعب منصب وليُّ وليِّ العهد، ومع التحفظات داخل الأسرة الحاكمة حول مقرن وأصل ووضع والدته ومسألة تخطيه للأمير أحمد فأن الظروف تهيئ لمتعب خطوة كبرى نحو عرش المملكة. وفي هذا السياق ذكرت صحيفة واشنطن بوست الأميركية، في تقرير لها نشر منذ أيام أن "نفوذ الأمير متعب ليس مرتبط فقط بالمناصب التي تقلدها، بل بالإجراءات التي اتخذها خلال السنوات القليلة الماضية والتي ارتكزت على أربعة قواعد أساسية تترتب على الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط، حيث أن متعب يدرك جيدا أن الاستقرار في دول مثل العراقوالبحرين واليمن ومصر يمنع القوى الإقليمية التخريبية من اكتساب نفوذ غير مبرر، بدليل ما فعله عام 2011 حينما أمر الحرس الوطني للتدخل في البحرين وبالتالي منع حليف الولاياتالمتحدة-البحرين تستضيف الأسطول الخامس الأمريكي- من الانزلاق بعيدا نحو النفوذ الإيراني وخلق المزيد من عدم الاستقرار في الخليج (..) لقد أظهر الأمير متعب أيضا القدرة على التصرف بسرعة وبشكل حاسم ضد الهجمات التخريبية لمجموعة من التنظيمات مثل تنظيم الدولة الإسلامية داعش، وهذا هو المبدأ الثاني الذي يتعامل به متعب وهو الحاجة للتوحد ضد التطرف (..) الأمير متعب أيضا صرح في 2013 على هامش مهرجان الجنادرية إلى حاجة السعودية إلى مزيد من العلمنة والتحديث وكذلك تقليله من فاعلية دور الإسلام السياسي، وهو ما لاقى ترحيب عند غالبية السعوديين رجالاً ونساء، الذين لا يريدون أن تبقى السعودية أسيرة ضيق الأفق" . وتابعت الصحيفة "متعب يرحب باستمرار الشراكة مع الولاياتالمتحدة، وقبيل زيارته لواشنطن هذا الشهر أكد على سعادته بتوسيع التعاون مع النتاجون في مسألة توفير نقطة ارتكاز لقوات تدخل سريع مكونة من عسكريين أمريكيين وقوات الحرس الوطني السعودي التي يتولى قيادتها (..) على واشنطن أن تتخذ خطوتين مهمتين في هذا الصدد، الأولى دعوته لحضور جلسة مشتركة في الكونجرس لتبيان رؤيته الكاملة للشراكة بين البلدين، وتوافق الرؤية في التحديات العالمية والإقليمية التي تواجههم، والثانية تتمثل في تنظيم آلية بالتعاون مع الجامعات والشركات الأميركية للعمل مع الأمير متعب لتلبية مطالب الجيل الجديد من المفكرين والمبتكرين الإميركيين، هذا هو الرجل الذي سيستطيع المحافظة على إرث الملك عبد الله وسيعمل على المزيد من الإصلاحات". ضبابية مستقبل الحكم في السعودية تأتي بموازاة أزمات تعاني منها المملكة داخلياً وإقليميا، في القلب منها وعلى حسب آراء محللين وخبراء بالشأن السعودي، انقسام العائلة الحاكمة بعد وفاة الملك الحالي، وهو ما يعني فراغاً أو بالحد الأدنى تراجع للدور السعودي الهام في المنطقة، في ظل هذه الفترة الحرجة التي تعج بالأحداث والمتغيرات بداية من توابع ما سمي مجازاً "الربيع العربي" من البحرين إلى تونس، مروراً بحدود ملتهبة مع اليمن جنوباً خاصة بعد حسم الحوثيين هناك، وشرقاً في العراق، حيث شبح داعش والخوف من تمدده نحو أراضي المملكة، وأيضاً غليان المنطقة الشرقية ذات الغالبية الشيعية نتيجة القهر المجتمعي والسياسي لعقود، بالإضافة إلى ضلوع السعودية بدور رئيسي في صراع المحاور بالمنطقة، الممتد من باكستان شرقاً وحتى ليبيا غربا وفي القلب من ذلك الأزمة السوريةَ. ناهيك عن أن السعودية أكبر حليف للولايات المتحدة في المنطقة بعد إسرائيل، وهي كذلك أكبر منتج ومصدر للنفط وتمتلك أكبر احتياطي منه، وهو ما يستدعي انتقال سلس للحكم يضمن استقرار سوق النفط وكذلك استقرار المنطقة، وأن كان ذلك "الأستقرار" -المرجو اميركيا بالدرجة الأولى- قد يسبقه تقلبات وأزمة غير محددة المعالم والمدى ستغير وبالحد الأدنى في المستقبل القريب، القواعد التي يتم وفقها تعامل النظام السعودي تجاه التحديات في الداخل والخارج.