ينطلق الكاتب والروائي الشاب أحمد عبد اللطيف في روايته الجديدة «إلياس» من سؤال الحاضر الذي نعيشه الآن "ماذا نفعل وفي أي طريق نسير" ويطرح ذلك السؤال على لسان البطل متعدد المستويات، الباحث عن هويته وجذوره، في تراجيديا شديدة التعقيد، راسمًا صورة لأزمة الإنسان المنسحق المهزوم في لغة جديدة. حول «إلياس» ومشروعه السردي كان للبديل حوار مع أحمد عبد اللطيف، إلى نص الحوار… تعتمد في روايتك الجديدة على التوازي بين الحضارات والأديان وتركز على بعض سنوات التوتر في تاريخ القاهرةوغرناطة… فلماذا غرناطة تحديدًا؟ «غرناطة» تمثل في التاريخ مدينة المطاردات الدينية، فبعد سقوط الأندلس نهائيًا عام 1492، بدأت محاكم التفتيش التي فرضت المسيحية على المواطنين جميعًا، وكانت هذه وصمة عار جديدة في جبين البشرية. حينها تم طرد العرب وملاحقتهم، فيما نجا منهم في البداية من اعتنق أو ادعى أنه اعتنق المسيحية، وهم من أطلق عليهم لقب "الموريسكيون". الكثير من المسلمين الذين اعتنقوا المسيحية تركز وجودهم في غرناطة، ورغم اعتناقهم دين السلطة للدفاع عن حياتهم، إلا أن السلطة لم تكتف بذلك وطاردتهم على خلفية ماضيهم، وأقامت لهم مذبحة عام 1610، وكانت غير مبررة بالمرة. الغريب أن السلطة الكاثوليكية اعتمدت نفس المبرر الذي تستخدمه الآن السلطات الاستبدادية: المؤامرة الخارجية. وادعت هذه السلطة أن مسلمي غرناطة يتآمرون مع فرنسا ضدها. هذه الحادثة، بجانب حادثة دخول العرب مصر وتحويل مسيحييها إلى مسلمين ومحاولة القضاء على الهوية المصرية على مر العصور، من أكثر الأشياء التي استوقفتني تاريخيًا. "ساق التاريخ مبتورة. ساق التاريخ مبتورة في حادثة. في حادثة سيارة. في حادثة قطار. في حادثة تحدث كل يوم في مدن تشبه مدينتي. مدينة الخسائر" قلت إن الرواية تقدم إعادة قراءة للتاريخ وتفتح نافذة شك جديدة على الحقائق الثابتة، ولكن ألا ترى أن البناء اللغوي أعاق تقدم الحكاية، فاللغة هي سيدة النص، أم قصدت أن تقول إن التاريخ ليس أكثر من لغة، تستطيع خلق الحقائق من الأكاذيب؟ الرواية لا تقوم على الحكاية الإطارية التقليدية، بل حكايات متشظية يمكن بجمعها تكوين صورة عن البطل وتاريخه، بذلك رأيتها اللغة المناسبة لهذه الحكايات. من جانب آخر، أنا أحب اللعب مع اللغة واستخراج جماليات جديدة منها، جماليات تتسق كذلك مع المضمون، مع فكرة أن لغة التاريخ الإنساني يمكن تلخيصه في الهذيان. يبدو أنك تدفعنا لفهم موضوع الهوية من مدخل آخر مختلف عن المداخل التقليدية الأخرى التي غالبًا ما كانت تختصر الهوية ما بين هوية إسلامية وأخرى وطنية قومية، هل أردت نسف هذه الأفكار التقليدية البالية، التي أثبتت فشلها أمام أزمة الإنسان المنسحق المهزوم؟ سؤال البحث عن الهوية أحد الأسئلة الأساسية في الرواية، والحقيقة أنه سؤال يشغلني على الدوام، خاصًة في الحالة المصرية التي تعاقبت عليها الحضارات المختلفة، وبالتالي لا يمكن الحديث هنا عن هوية واحدة بل هويات متعددة. ربما كان التعصب لفرض هوية واحدة، "الهوية العربية الإسلامية"، ما أثر بالسلب على المجتمع المصري، حتى بات الأمر يشبه "الهويات القاتلة" بتعبير الروائي اللبناني أمين معلوف. الأزمة بدأت تحديدًا بوصول العرب، مع إصرارهم على محو الحضارات السابقة والديانات المتنوعة وفرض لغتهم. لكن الأمر لم يتوقف عند فرض اللغة، بل امتد لفرض الثقافة، هنا أستحضر الغزو الإسباني لأمريكا اللاتينية، فرغم قوته وفرض لغته إلا أنه لم يغير هوية كل بلد وثقافته. ومع الفترة الناصرية، كان التأكيد بقوة على الهوية العربية في مقابل تهميش هويات أخرى مثل السيناوية والواحاتية والنوبية، مع إهمال تام للتاريخ المصري القديم والتعامل معه باعتباره "تاريخ وثني". أما "إلياس"، في المقابل، فتنتصر للإنسان الضعيف المغلوب على أمره، وتوجه نقدها في قالب فني لتلك السلطة التي تسعى دومًا لمحو هويته. لغة الرواية تبدو مشيطنة وملعونة… من هو إلياس الذي صنعت له هذه اللغة؟ لغة الرواية اعتمدت على التكرار كوسيلة أسلوبية، مثّلت شكلًا من أشكال الانشطار اللغوي لتعكس حياة البطل وتوتره. أما إلياس فهو الإنسان المهزوم في كل عصر، هو الضحية لكل أنظمة الحكم الفاسدة، ولكل التطرفات الدينية، هو الرجل المسالم الذي وجد نفسه مضطرًا للتخلي عن ديانته للحفاظ على حياته، وتنفيذ أوامر السلطة استجابة لقناعات بالية. إلياس في النهاية هو الممثل الذي يتقمص أدوار آخرين. في هذه الرواية كان رهانك على اللغة…إلى أي مدى حققت طموحك؟ بشكل شخصي، أعتقد في وحدة الشكل والمضمون، بمعنى أن يكون الأسلوب والتكنيك وسيلة لتعرية الأفكار والأسئلة، ومتسق مع الحكاية. مع ذلك، كنت أطمح لخلق لغة سرد جديدة تناسب العالم الروائي من ناحية، وتكون مرآة لأزمة البطل من ناحية أخرى، وتعبر عن الإنسان في هذه اللحظة، بكل ما يعانيه من هذيان وعدمية وهزيمة. أقول إنني أحاول، أحاول وأجرب، وكلما اعتقدت أنني لازلت أجرب، أطمئن على نفسي، لأنني أعتقد أن الكاتب المطمئن يتوقف عن الكتابة. هناك مجموعة أصيلة من الأسئلة المتعلقة بالعدم والوجود، والتي غالبًا ما تكون مشتركة في كل أعمالك، ولكن هذه الأسئلة لا تشغل بال الكثيرين، فهل تراهن على قاريء معين؟ أظن أن الكاتب يجب أن يطرح أسئلته الخاصة، ويفترض أن آخرين يهتمون بنفس الأسئلة أو قد يهتمون بها. سؤال الموت والحياة، سؤال التاريخ والماضي، سؤال التحولات التي تحدث للفرد أو للعالم، سؤال التطرف الديني أو الحكم المستبد، سؤال العزلة بقسوتها، سؤال الهوية، كلها أسئلة مطروحة في كتابتي برفقة سؤال الوجود نفسه. هذه الأسئلة في ظني تهم كل إنسان في لحظة ما أو طول الوقت، وهذه أسئلة الأدب في حقيقته. أما القاريء الذي أراهن عليه فهو قاريء الرواية، محب هذا الفن والمستعد لتلقيه، لأن كتابتي لا تتطلب مزايا خاصة لفهمها. أعتقد أنني أكتب رواية سهلة القراءة، ومسلية إلى حد كبير، ومن خلال ذلك أقول ما أريد قوله، وأجرب ما أريد تجريبه. الخيال الذهني ركيزة أساسية في أعمالك فماهي حدود الواقع والخيال عند كتاباتك للرواية؟ أعترف لك أنني لا أعرف تحديدًا ما هي الحدود بين الواقع والخيال. هل الأحلام المنامية واقع أم خيال؟ أحلام اليقظة واقع أم خيال؟ الهواجس، والوساوس، والخوف من المجهول، والتاريخ.. هل هذه الأشياء واقع أم خيال؟ مع ذلك، لأكون أكثر تحديدًا، أنا أنطلق من سؤال داخلي يخرج من قلب الأرض، من قلب الواقع، من داخل ذاتي التي هي جزء من الواقع الملموس، في محاولة لفهم ما يحدث. عادةً ما افترض فرضيات تبدو للوهلة الأولى غريبة، لكنها في حقيقتها ابنة الواقع وأزمة الإنسان في مواجهته. اللعبة في كل مرة تختلف، من رواية لأخرى، لكن الأسئلة متكررة: الوحدة والتيه والتحولات، كل ذلك في سياق سؤال أكبر: ماذا نفعل هنا؟ أعتمد بشكل أساسي وكبير على "التأليف" أو "التخييل"، أجنح إلى الفانتازيا الميتافيزيقية، ومع ذلك يمكن رد كتابتي إلى واقع ملموس أو تأويله ليكون جزءًا من المتعارف عليه. يقول الروائي الإسباني خابيير مارياس إن الرواية "أن تقول للقاريء ما يعرفه دون أن يعرف أنه كان يعرفه"، أعتقد أن هذا ما أفعله في كتابتي عبر التطلع للواقع من نافذة الخيال، ومحاولة تصوره بغير صورته المعتادة. بالإضافة لذلك، أطمح لكتابة روايات غريبة، لأنني أعتقد أن الرواية يجب أن تكون غريبة.