رياح الربيع التي هبت على العديد من الدول العربية، طالت أيضا خلال الأيام القليلة الماضية بوركينا فاسو، ما دفع الجيش إلى حل الحكومة والبرلمان بعد أعمال عنف دامية شهدتها البلاد، وأكد الجيش أنه سيسلم السلطة لحكومة منتخبة ديمقراطيا بعد الفترة الانتقالية. في البداية رحب رئيس بوركينا فاسو "بليز كمباوري" بخطة الجيش وتعهد للشعب بتسليم السلطة لحكومة منتخبة ديمقراطيا بعد الفترة الانتقالية، لكن المعارضة رفضت وأصرت على تنحية. وفي ظل تشابه الأحداث الجارية في بوركينا فاسو مع ما تلك التي شهدتها الدول العربية خلال السنوات الماضية عقب ما اصطلح على تسميته ب"ثورات الربيع العربي" إلى حد كبير حتى في الكلمات الأخيرة التي ألقاها كمباوري على الجمهور والتي تشابهت مع خطابات الرؤساء العرب وقت الثورات حيث قال كمباوري "لقد سمعت الرسالة ، لقد فهمتها وأخذت الإجراء الملائم للتطلعات القوية إلى التغيير". الجيش البوركيني لم يقبل باستمرار "كمباوري" في السلطة عقب تزايد الاحتجاجات الرافضة له، الأمر الذي دفع الأخير لإعلان تنحية عن السلطة وترك منصبه بعد 27 عاما من حكم البلاد، ليتم اختيار "اسحق زيدا" وهو قائد بقوات الحرس الرئاسي لقيادة الفترة الانتقالية لحين تنظيم انتخابات بالبلاد. وكأن الأحداث تعيد نفسها بالنص مع اختلاف الأسماء والأماكن، حيث رحبت فرنسا على الفور بتلك الخطوة، بينما أعرب الاتحاد الأوروبي والاتحاد الأفريقي عن "قلقهما العميق" إزاء التطورات الجارية في بوركينافاسو، داعين جميع الأطراف إلى وقف العنف وبدء حوار فوري. هذا الارتياح الفرنسي لرحيل كمباوري عن الحكم له علاقة بدوره في غرب إفريقيا والذي أدى إلى تقليص نفوذ باريس هناك، حيث وقف "كومباوري" في أغسطس 2013 بالعاصمة الإيفوارية، ليتحدث عن الجولة الأولى من الانتخابات الرئاسية في مالي بنوع من الزهو والإحساس بالنصر، فهو الوسيط الأفريقي الذي تمكن من إقناع منفذي انقلاب 22 مارس 2012 بتسليم السلطة لرئيس بالوكالة وحكومة انتقالية؛ كما أنه هو نفس الوسيط الذي جمع الحكومة الانتقالية مع المتمردين بالشمال في عاصمة بوركينا فاسو، ليخرجوا باتفاق تم على إثره تنظيم هذه الانتخابات الرئاسية. هذا الحضور القوي لكومباوري في أزمة مالي سبقه حضور مماثل في أزمات أخرى اندلعت في منطقة غرب أفريقيا، حيث يعتبره البعض رجل الوساطات الناجحة في غرب أفريقيا، ويصفه أنصاره بأنه «عراب النهضة الديمقراطية في بوركينا فاسو»؛ فيما يرى خصومه السياسيين أنه «أحد عوامل عدم الاستقرار في المنطقة»، وليس الرجل المناسب لتقديم النصح في الديمقراطية. كومباوري ذلك الرجل العسكري الذي تدرب في الجيش الفرنسي قبل أن يلتحق بالحرس الجمهوري سنة 1973، شارك في إسقاط الجمهورية الثالثة 25 نوفمبر 1980، ليتربع على السلطة في فولتا العليا «اللجنة العسكرية للخلاص من أجل التقدم الوطني»، التي كان بليز كومباوري ورفيق الطفولة والسلاح توماس سانكارا عضوين بها؛ غير أنهما لم يتأخرا ضمن مجموعة من الضباط الشباب المتحمسين، في إبداء الامتعاض من طريقة حكم اللجنة العسكرية الجديدة. ظلت الأوضاع مضطربة في ظل حكم اللجنة العسكرية للخلاص من أجل التقدم الوطني، ليتدخل عسكريون من بينهم كومباوري وسانكارا، سنة 1982، فأزاحوا اللجنة العسكرية واستولوا على الحكم تحت اسم «مجلس تحية الشعب»، ولكن الخلافات لم تتوقف حيث بدأ الشرخ يظهر على السطح بين الضباط التقدميين وزملائهم من المحافظين، وهو ما أسفر عن اعتقال زعيم الضباط المحافظين توماس سانكارا في مايو 1983، فيما أفلت كومباوري من الاعتقال، ليتحصن في معسكر لتدريب الكوماندوز، ويبدأ في تنظيم مقاومة شرسة لإطلاق سراح رفيقه وضباط آخرين معتقلين، وهو ما تمكن منه بعد عدة أيام، لتبدأ ثورة انتهت بالسيطرة على العاصمة يوم 4 أغسطس 1983، فأسس الثوار «المجلس الوطني الثوري» بقيادة سانكارا، وغيروا اسم الدولة من «فولتا العليا» إلى «بوركينا فاسو»، وتعني باللغة المحلية "أرض الرجال الشرفاء". بدأ الثوار في إجراء إصلاحات واسعة تماشيا مع الآمال الكبيرة التي علقها الشعب على الضباط الشباب الحاكمين، الذين رفعوا شعارات معادية للإمبريالية ومنادية بالقومية الأفريقية؛ فأصبح قائد الثورة سانكارا يلقب ب«تشي غيفارا أفريقيا»، وهو ما أزعج بعض الدول المجاورة، ولم يكن محل استحسان لدى القوة الاستعمارية السابقة خاصة فرنسا. أربع سنوات كانت كافية ليصل الخلاف بين الرئيس سانكارا وصديقه المقرب كومباوري، إلى نقطة النهاية، لينقلب كومباوري على صديقه ورفيق سلاحه يوم 15 أكتوبر 1987، قتل خلاله سانكارا برشاش مدفع ثقيل استهدف مقر إقامته، ليخرج كومباوري بعد ذلك بأيام ويقول للصحافيين إنه فقد صديقا عزيزا. الحقيقة الوحيدة هي أن بليز كومباوري بعد مقتل توماس سانكارا أصبح هو الممسك بزمام الأمور، فترأس الجبهة الشعبية التي تولت مقاليد الحكم، وفي أول خطاب يلقيه، بعد الانقلاب بأربعة أيام، وصف ما جرى بأنه «حركة تصحيح الثورة»، وأضاف أنه ماض في طريق الثورة ولكن بنهج جديد هو الديمقراطية.