تنسج الكاتبة عزة رشاد عالمها الروائي والقصصي بهدوء شديد، فهي تحمل صوتًا متميزًا وخافتًا، لا يهمل اللغة تحت أي ظرف، ويوظف التقنيات ببراعة ودون افتعال. الغوص في روح المرأة كان نقطة انطلاق «رشاد» إلى عالم الإبداع عبر روايتها الأولى «ذاكرة التيه» 2003، ثم انتقلت لتعبر عن أدق اللحظات الإنسانية في مجموعاتها القصصية "أحب نورا..أكره نورهان، نصف ضوء، بنات أحلامي" وفي هذا العام توجت عزة رشاد عالمها بروايتها "شجرة اللبخ" الصادرة حديثًا عن دار الكتب خان، لتدفع بمشروعها السردي إلى أفق مختلف. وكان للبديل حوار معها، إلى نص الحوار.. عزة رشاد الطبيبة والقاصة والروائية.. سبقك الكثير من الأطباء في الدخول إلى عالم الابداع، مثل إبراهيم ناجي، ويوسف ادريس. هل هذا كان حاضرًا في ذهنك عندما بدأتي حياتك الأدبية؟ ماكان يمثل فرقًا معي أن يكون إبراهيم ناجي أو يوسف إدريس طبيبًا أو أي شيء آخر، فقد عرفتهما كمبدعين وليس في سياق آخر، وإذا ما تأملنا الإسمين فأحدهما يتميز بالرومانسية "ناجي" بينما الآخر يتميز بالواقعية "إدريس"، أي أن اختلاف شخصية وموهبة كل منهما عن الآخر لم يقلصه تشابههما في دراسة الطب، وقياسًا، فما كان لي أن أقتدي بهما لكونهما طبيبان، كما أنني بدأت الكتابة قبل دخولي الجامعة وكان نجيب محفوظ ويحيى حقي هما الأقرب إليّ في ذلك الوقت. الطبيب يتعامل مع الجسد البشري في حالته الخام أي يتعامل معه كمادة، فكيف تتلمسي فكرة الروحي في هذا الجسد؟ الفصل بين الجسد والروح يتبين كل يوم أكثر من سابقه أنه يميل للتعسف، فلا شيء يجرح النفس أكثر من اعتلال الجسد، كما أن المريض كثيرًا ما يعاني الكآبة، والكآبة باعتبارها مرض نفسي يضطرب بسببه إيقاع الحياة (النوم والراحة والغذاء) ما يؤثر سلبيًا في الجسد المادي مرة أخرى أي أنها دائرة مغلقة من التأثير والتأثر. والأديب يعي ذلك أكثر من غيره، أكثر من الطبيب أيضًا، فبدون الإحاطة بكافة ألوان معاناة الإنسان وبدون رحابة وموهبة التعبير عنها لا يكون الأديب أديبًا. نسجتي روايتك الجديدة "شجرة اللبخ" من أجواء ملحمية، أقرب إلى فكرة الموضوع، أي ابتعدتي عن الكتابة الذاتية، وهذا على عكس انتاجك في القصة القصيرة، ما تفسيرك لذلك؟ لا أتصور أني ابتعدت عن الاشتباك مع النفسي والانفعالي الأهوائي للشخصيات في "شجرة اللبخ"، فقد سعيت من خلال راوٍ من نوعٍ خاص إلى تقمص كل من الشخصيات العشر التي تمثل أعمدة "شجرة اللبخ" مع ترك مساحات من الاحتمال لا القطع في بعض الأمور، وهذا لكي لا أضع كل شيء في يد الرواي فيتحول إلى مستبد، أما فكرة الموضوع فلم تلعب دورها إلا بعد استيفاء الشخصية "لحمها ودمها الذاتي الإنساني بطموحاتها وكوابحها وتناقضاتها وأزماتها"، حتى أخبرني بعض قراء "شجرة اللبخ" أنهم عرفوا شخصيات "سعاد"، "شفاعة"، "فارس"، "همام" أكثر من آخرين قريبين منهم في الحياة الحقيقية. "شجرة اللبخ" ابتعدت عن التصور الماضوي القديم للريف المصري …كيف تقيمين تعامل الأدباء مع القرية المصرية؟ لكل تجربة إبداعية خصائصها، وأحسب أن لدينا قامات كبيرة في الأدب المعبر عن الريف، ولربما انحازت "شجرة اللبخ" لكشف كثير من الزيف والأكاذيب "بعضها مختار بوعي وبعضها فُرض قسرًا"، كثير أيضًا من التواطؤ، ليس فقط في زمن "شجرة اللبخ"، ففي أيامنها هذه مازال هناك تواطؤ لإخفاء جرائم من جراء الإرث وغيره من أمور تافهة للأسف. "رضوان البلبيسي" الرجل الثري يطير نعشه، فتنطلق فكرة تخليده عبر الضريح من قبل المهمشين والمقهورين.. إلى أي مدى لا تزال الخرافة تؤثر في الوجدان المصري؟ لاتزال تؤثر للأسف، والخرافة دومًا تحتاج إلى عباءة دينية كي تسبغ على نفسها القداسة، وبعض الأثرياء وأصحاب النفوذ ينفقون عليها أموالا طائلة، أما في الريف فتنتشر حتى لدى الفقراء، والجهل هو السبب الرئيسي، ثم يأتي تفاقم الإحساس بالعجز وقلة الحيلة خاصة عندما تتراجع الدولة عن دورها في العدالة وفي التنوير. وما الهدف من تحويل الظالم إلى ولي، هل اسقاط على شيء معين؟ وهل هناك نماذج في التاريخ المصري تتشابه نهايتها مع نهاية "رضوان البلبيسي"؟ هذا للتعبير عن الزيف الذي طال الكثير من الأشياء في ذلك الوقت وحتى وقتنا هذا، وبشكل أو بآخر فالكل في الرواية متورط لأن "رضوان بيه" لم يولد مستبدًا لكنه أصبح كذلك عندما سكت الناس على ظلمه لكي يجنون من فوائده، والمفارقة هي أن أكثر من أعانوه على ظلمه "كبير السوالمة، الخولي" كانوا أول من استثمروا موته، فهي نفس الانتهازية. من أين يولد نص عزة رشاد من سيطرة الفكرة أم من سطوة الحالة؟ تحري ميلاد اللحظة الإبداعية وتتبع مسارها هو برأيي لونًا من العبث، وإن كنت أميل إلى استبعاد تدخل الوعي في البداية، أي أميل إلى سطوة حالة معينة على المبدع ربما تثيرها بداخله كلمة عابرة أو ظل أو صدى صوت، فيظل يبحث عن شيء لا يدري، تحديدًا، ما هو "على الأقل بالنسبة لي"، أو أين يمكن أن يتواجد؟ أو لماذا هذا الشيء دون غيره؟ فإذا حافظ المبدع على بقاء الجسر موصول بتتبع الكلمة أو صدى الصوت أو الظل فإنه يصل في النهاية، في أغلب الأحوال، إلى بوابة عمله الإبداعي الجديد. ما رأيك في مصطلح الأدب النسوي؟ هل استطاع أن يعبر عن عالم المرأة بتفاصيله الدقيقة وأبعاده الواسعة؟ أتصور أن المصطلح ملتبس، فهناك من يعتبر النسوية انحياز للمرأة وتمييز لها عن الرجل وفي هذه الحالة أرفضها دون شك، أما إذا كان المقصود بها الدعوة لنظرة مختلفة للحياة والعالم والإنسان "رجاله ونسائه"، نظرة مختلفة عن الذكورية التي حكمت العالم طويلا وأورثته التمييز وعدم المساواة وسيطرة مبدأ "البقاء للأقوى"، لو هذا المقصود بها فبالطبع أقبلها وأدعمها.