"الثقافة" أحد المصطلحات التي يختلف بشأن تعريفها المفكرون بسبب اختلاف المكان أو البيئة التي ينطلق منها كل منهم، ومن هنا تجيء نسبية مصطلح الثقافة من مكان لآخر، حتى لقد انشغلت هيئة اليونسكو بهذه الإشكالية وحصرت تعريفات الثقافة بين مختلف شعوب العالم ووجدتها تزيد على المائة وخمسين تعريفا إنطلاقا من عدة معارف ابتداء من الجغرافيا البشرية والتاريخ وانتهاء بعلم النفس ومرورا بالإجتماع والأنثروبولوجيا، مما يؤكد في النهاية على نسبية المصطلح. غير أن التعريف الأكثر شمولا للثقافة أنها تعبير أدبي عن الحضارة المادية يشير إلى مجمل تصرفات الإنسان تجاه الطبيعة المحيطة والظروف التي تواجهه، ويتم التعبير عن هذه التصرفات تعبيرا أدبيا فكريا تكون الأمثال التي يرددها الناس أحد مظاهر هذا التعبير. ثم يصبح هذا الجانب الفكري وسيلة الأجيال التالية في التعامل مع مختلف المستجدات. وينتج عن هذا القول إن الحضارة منجزات مادية، والثقافة تعبير عن تلك المنجزات، أو إن الثقافة ابنة الحضارة. وبعبارة أخرى فإن الفرق بين الحضارة والثقافة بهذا المعنى هو الفرق بين الخضروات النيئة والخضروات المطبوخة .. فالإنسان في كل مكان على ظهر الأرض يستخدم أنواعا واحدة من الخضروات (مثل البامية والباذنجان والكرنب ..) لكن طريقة التعامل مع هذا الخضار (طبخه أوطهيه) تختلف من شعب لآخر ويأتي هذا الإختلاف دوما حسب خبرة الإنسان وتجاربه وتذوقه. وتجدر الإشارة هنا إلى أن دوائر المعارف الإنجليزية تربط بين كلمتين وتردهما لأصل واحد وهما كلمتي: culture و كلمة cultivation فتقول culture of grapes (والترجمة الحرفية: ثقافة العنب .. أي زراعته ؟!) ، وتردهما إلى الأصل اللاتيني cultura من colera أي يزرع to cultivate ( راجع دائرة معارف ويبستر Webster 1994). والمعنى من وراء تلك الإشتقاقات: الخبرة المتولدة من التعامل مع الطبيعة بحيث تتشكل في النهاية الملامح الخصوصية للحضارة civilization بمؤسساتها الإجتماعية. وتلك التعريفات تقول لنا في النهاية أن هناك علاقة بين التطور المادي وبين التطور الثقافي حتى ليقال إن الصناعة ثقافة مادية، وتكون الثقافة في النهاية عبارة عن سجل يشتمل على المعرفة والفن والعمارة والأخلاق والقانون والعرف والعقائد التي تعمل في مجموعها على تكوين السمات العامة التي تميز جماعة من جماعة أخرى. ويرتبط بمصطلح "الثقافة العامة" مصطلح "الثقافة الفرعية" التي تخص جماعة مهاجرة انتقلت من مجتمعها ومعها ثقافتها المغايرة للثقافة العامة السائدة في المجتمع الذي هاجروا إليه. ولكن بمرور الوقت وبفضل المعايشة المشتركة تحدث عملية "التثاقف" بين الطرفين من خلال التأثر والتأثير المتبادل مما ينتج عنه سيادة طرق معينة في الحياة، ونظم معدلة تحت ظروف مختلفة. ومصر من البلدان التي تعرض شعبها للإختلاط بشعوب بلاد أخرى من مناطق مختلفة منذ فترة بعيدة جدا تعود في التاريخ المدرك إلى القرن السابع عشر قبل الميلاد (عصر الأسرة الثالثة عشر-الدولة الوسطى) حين زحف إليها الرعاة (الهكسوس) من جهة الشمال الشرقي عبر الصحراء، ثم الفرس واليونان والرومان وعرب الجزيرة العربية وما تلاهم من شعوب وسط آسيا مع المماليك والعثمانيين ..إلخ. ولقد صنعت هذه المسيرة الطويلة أركان "ثقافة المصريين التي أصبحت علامة عليهم. وهنا تنبغي الإشارة إلى ما قاله الشيخ محمد عبده في عام 1876 في جريدة الأهرام من "أن الشعب المصري لا يفنى ولا يندغم في غيره من الشعوب التي تغلبت على حكومته، وقد يندغم الشعب المتغلب عليه فيه، بل يعيش ويحفظ مشخصاته القومية، والحكومات أعراض تزول وهو لا يزول". والخلاصة أن الثقافة نسبية ومستقلة في مجتمعها حسب ظروف بيئة المكان، ولا يمكن أن تكون عالمية ومطلقة وأبدية. وبالتالي لا يجوز أن نستخدم تعبير "التخلف الثقافي" لوصف ثقافة مجتمع ما، لأن مرجعية التخلف والتقدم في هذه الحالة ستكون نسبة إلى ثقافة مجتمع آخر تبلورت في ظروف أخرى. والحال كذلك .. فإن من يرى أن ثقافة المصريين متخلفة ويود النهوض بها إلى آفاق "متقدمة" فهذا لا يمكن أن يأتي بوضع "سياسة ثقافية" لتخليص المصريين من موروثهم الثقافي من حيث "خطأ" نظرتهم إلى الحكم القائم، وعدم الثقة في الحاكم، والسخرية من المسؤولين، ولفت الانتباه للعمل من أجل التنمية والقوة .. إلى آخر ما يمكن وضعه باسم "برنامج" ثقافي أو "سياسة" ثقافية. ولكن إذا أردنا تغيير ثقافة الرذيلة والسلبية وعدم المبالاة فعلينا أن نصنع الواقع المادي الذي يغير من السلوك الثقافي التابع ، أي أن نبدأ من البناء التحتي في المجتمع infra structure (التغيير المادي) حتى يتغير البناء الفوقي super structure الذي تحتلل القيم الثقافية قمته، ولا يكون أن تكون السياسة الثقافية قائمة على محاكاة قيم ثقافية لمجتمعات أخرى تختلف ظروفها وتطورها عن مجتمعنا وإلا سوف نصبح مثل الغراب الذي دهن ريشه باللون الأبيض لكي يكون مثل الحمام فاكتشفه الحمام ولفظته عائلته (الغربان).