منذ قررت الحكومة رفع الدعم عن البنزين والسولار والجدل دائر حول تداعيات هذا القرار على ارتفاع أسعار المواد الاستهلاكية الأساسية التي لا يمكن للمواطنين الاستغناء عنها، خاصة وأن الحكومة أعلنت عن نيتها في رفع الدعم بالتدريج وعلى مدى خمس سنوات عن أسعار الكهرباء وربما المياه ومواد أخرى أساسية، مما يهدد بعدم الاستقرار واستمرار رفع شعار "الثورة مستمرة من أجل الكرامة والعدالة". فإذا كان رفع الدعم أول الخطوات على طريق حل مشكلات مصر الاقتصادية كما يأتي على لسان المسؤولين فلا بأس من ذلك، ولكن بشرط أن يتحمل المصريون جميعا التأثيرات التي تنتج عن ذلك فيما يتعلق بارتفاع الأسعار. وهذا لا يتأتى إلا بتطبيق آليات الاقتصاد الحر كما هي في البلاد الرأسمالية. وأول مظاهر هذه الآلية: حق العاملين في كل مجال من مجالات الانتاج والخدمات تكوين النقابات التي تدافع عن مصالحهم ضد طغيان أصحاب رأس المال، وذلك من حيث التهديد بالإضراب إذا لم يتم الاستجابة لطلباتهم بشأن زيادة الأجور أو تخفيض الأسعار أو تحسين الخدمات. ويسبق التهديد بالإضراب تقديم النقابة لمطالبها لصاحب العمل أولا، فإذا لم يوافق عليها تبدأ المفاوضات بين محامي الشركة ومحامي النقابة، فإذا فشلت المفاوضات تعلن النقابة التهديد بالإضراب بعد انتهاء أسبوع أو عشرة أيام. وعند هذا الحد يسرع صاحب العمل بالاستجابة لمطلب النقابة لأن إضراب ساعة يعني خسارته قدرا من الإنتاج المطلوب للسوق ومن ثم انخفاض أرباحه. وعلى هذا يحدث السلام الاجتماعي رغم حكم أصحاب رأس المال وسيطرتهم على السلطتين التشريعية والتنفيذية، وبالتالي لا تحدث ثورة اجتماعية .. إلخ. ومن هنا قيل: إن قوة العمل أقوى من رأس المال في البلاد الرأسمالية. أما في بلدنا مصر فالهرم مقلوب.. نريد تطبيق نظام الاقتصاد الحر دون إعطاء العمال حق تكوين نقابات والتهديد بالإضراب تنفيذا لآلية العرض والطلب السائدة في البلاد الرأسمالية، ذلك أن أصحاب رأس المال في مصر لا يعرفون إلا الربح والهروب من أية التزامات تجاه قوة العمل مع أن العمال هم الذين يأتون لهم بالربح والثروة. وتلك خصوصية صاحبت الرأسمالية في مصر منذ دخل أصحاب رأس المال الزراعي والتجاري والصناعي دوائر الحكم مع الاحتلال البريطاني. وأكثر من هذا أنه في أثناء وضع دستور 1923 رفضت لجنة الدستور التي تكونت كلها من صفوة أصحاب رأس المال، الموافقة على أن يتضمن الدستور نصا يسمح للعمال بتكوين النقابات. فقام العمال من تلقاء أنفسهم بتكوين النقابات وتحريك الإضرابات والمظاهرات، فكان من السهل على السلطات اعتقال المضربين والمتظاهرين بدعوى أن نقاباتهم غير مشروعة قانونا. ثم توقفت هذه الظاهرة مع ثورة يوليو التي اعترفت بالنقابات وتم تشكيل اتحاد عام للعمال (1957) وتمت السيطرة على اقتصاد السوق، ولم يعد هناك مجال لإضرابات العمال بشأن الأسعار أو الأجور أو الخدمات. ولكن ومع سياسة الانفتاح الاقتصادي التي انتهجها السادات بناء على نصيحة الرئيس الأمريكي ريتشارد نيكسون عند زيارته لمصر (19 يونية 1974) عادت الأمور إلى ما كانت عليه قبل يوليو 1952 من حيث سيطرة رأس المال من جديد باسم "رجال الأعمال"، وتوحش هؤلاء الرأسماليون الجدد ونهبوا البلد دون تقديم أية تنازلات لقوة العمل التي تصنع لهم الثروة. وأكثر من هذا أن فلاسفة الاقتصاد الحر في مصر يقولون إن رفع الأجور سوف يؤدي إلى التضخم، وهذا صحيح طبقا لآلية العرض والطلب، لكن إذا تم ضبط الأسعار فلن يحدث التضخم لأن العلة تدور مع المعلول وجودا وعدما. إن الأخذ بسياسة رفع الدعم وتطبيق آلية العرض والطلب بالشروط القائمة في البلاد الرأسمالية سوف ترغم الرأسماليين في مصر على تخفيض الأسعار أو رفع الأجور خوفا على ثروتهم من التبديد والضياع، ودون تدخل من الدولة. وهكذا أيها السادة.. فإن اللغز حويط والحل بسيط.. ولكن من ذا الذي يعلق الجرس في رقبة القط.؟.