منذ ما يزيد عن شهرين أعلن اللواء خليفة حفتر عملية "الكرامة" التي على حد قوله تسعى لتطهير ليبيا من الارهابيين والحد من فوضى انتشار السلاح والمليشيات المتطرفة والخلاص من جماعة الإخوان المسلمين. وفرض خارطة طريق للتغيير السياسي في ليبيا تمهد لسلطة مركزية بعد فشل الحكومات المتعاقبة في طرابلس منذ 2011. لكن ما أسفرت إليه الأحداث أن حفتر لاذ بالفرار منذ أيام إلى مصر حسب ما أعلنت بعض وسائل الإعلام نقلاً عن مصادر في بني غازي بعد هزيمة قواته وتكبدها مئات من القتلى والجرحى، وهو الأمر الذي لم يؤكد حتى الأن، ولم يؤكد أيضاً وجود حفتر في مصر. اتخذ حفتر من شرق ليبيا مسرحاً لعملياته، ومن أحد المطارات في بني غازي مقراً للقيادة، واتسم خطابه بالتودد للسلطة الجديدة في مصر، أملاً في مساعدات عسكرية تمكن قواته من انجاز عسكري سريع على الأرض يؤسس موطئ قدم له أمام المليشيات المتعددة المشارب والانتماءات، فمن التي تكونت اثناء 2011 مثل "كتيبة17 فبراير" وحتى الجهادية منها التي تتبع التيار السلفي الجهادي مثل "أنصار الشريعة"، والتي تنتمي فكريا إلى تنظيم القاعدة. مؤخراً اعلن بعض المنتمين لتيار السلفية الجهادية البيعة والولاء للدولة الإسلامية وخليفتها أبو بكر البغدادي، الذي وبحسب تقارير اخبارية سمح لليبيين المتواجدين في سورياوالعراق بالعودة إلى بلادهم للمشاركة في الصراع العسكري الدائر هناك شرقا مع حفتر وقواته وغرباً مع المليشيات المتحالفة مع التيار الوطني الحائز على اغلبية برلمانية مؤخرا، وذلك بالتوازي مع انتقال مختار بلمختار احد اخطر القادة الجهاديين في المغرب العربي إلى جنوب ليبيا بعد معارك دامية بين عناصره وقوات جزائرية- فرنسية مشتركة في مالي. بخلاف صراع قوات حفتر والمليشيات المسلحة في شرق ليبيا، يوجد صراع موازي في الغرب ما بين الكتل السياسية المتناحرة في طرابلس، ما بين التيارات التي تسمى بالمدنية والتقليدية بزعامة حزب "تحالف القوى الوطنية" وما بين الإسلاميين والذين يتزعمهم "حزب العدالة والبناء" الذراع السياسي للإخوان في ليبيا. وكل من الطرفين يلجأ إلى القوة والعنف في هذا الصراع بجانب صندوق الانتخابات، والذي نتج عنه عدم حصول الإسلاميين على النسبة التي تمكنهم من تشكيل الحكومة، والذي فشل حتى الأن في الانعقاد بكامل اعضاءه، فالأخوان المسلمين ومن في محيطهم من باقي الاحزاب والتحالفات الانتخابية لم يحوزوا على الاغلبية التي تمكنهم من تشكيل حكومة، واستمرار رجلهم أحمد المعيتيق في منصبه، ومع عزم تحالف القوى الوطنية والمتحالفين معه تشكيل حكومة من المنتمين إليهم وليس حكومة ائتلافية، تعقدت مجريات الأمور عقب الانتخابات اوائل الشهر الماضي، فساد انفلات أمني ودارت معارك بين المليشيات المسلحة في سبيل السيطرة على عدة اماكن حيوية منها مطار طرابلس، ورجح بعض المحللين أن الإخوان المسلمين في ليبيا يسعون لفرض واقع جديد بالسلاح لم يستطيعوا فرضه بصندوق الانتخابات، ومن ثم كان انسحاب نواب البرلمان المنتخبين حديثاً المنتمين للتيار الإسلامي من الجلسة الاولى للبرلمان دليل على عدم رضا هذا التيار بما حصل عليه انتخابياً، وسعيه لاستخدام القوة في طرابلس ومدن الغرب كورقة ضغط على المؤتمر الوطني ككل، الذين يرفضوا منذ عام استمراره في مهامه. وذلك بخلاف الصراع بين المناديين بالفيدرالية الموعودة والحكومة المركزية. بالطبع لا يمكن فصل ما يحدث في ليبيا عن الصراع بين محور (مصر-الامارات-السعودية) ومحور (قطر-تركيا- تونس في بعض الأحيان)، سواء في شرق ليبيا أو غربها؛ فمن بداية الإعلان عن "عملية الكرامة" تلقى حفتر دعم معنوي وإعلامي ومادي من دول المحور الأول، قابله نفس الشيء من دول المحور الثاني، والهزيمة العسكرية لقوات حفتر شرق ليبيا قوبلت بنجاح انتخابي لتحالف محمود جبريل، أي أن هناك -وحتى أسابيع قليلة مضت- توازن محسوس بين وكلاء كل من المحورين في ليبيا. وما يحدث الأن هو محاولة كسر التوازن والوصول للغلبة المطلقة عن طريق السلاح، وهو أمر معتاد بالنسبة للعملية السياسية في ليبيا منذ الاطاحة بنظام القذافي. المميز في جولة العنف في ليبيا هذه المرة أمران، الأول هو سيطرة الجهاديين على ساحة المعارك العسكرية بشكل كامل، فبعد احتواء العديد من "كتائب الثوار" في الجيش النظامي ومحاولة تطويع الباقيين منهم بنزع سلاحهم، لم يتبق قوة مسلحة خارج اطار "نصف الدولة" إلا عند المنتمين للتيار الجهادي، وهم كالعادة يعادون كافة الأطراف ولكن بدرجات متفاوتة، فبعيدا عن التضاد ما بين حفتر ومكونات المجلس الوطني الليبي من المنتميين للتيارات المدنية والإخوان المسلمون، برزت الجماعات الجهادية وعلى رأسها جماعة "أنصار الشريعة" كخطر يواجه الجميع؛ فبعد دحر حفتر الوشيك على يد هذه الجماعة وغيرها، أصبح لها اليد الطولى في تسيير الأمور شرق ليبيا، وبعد ان كانت علاقتها بأعضاء المجلس الوطني والسياسيين في طرابلس عموما قائمة على الشد والجذب، أضحت الأن تعلن عداوتها بشكل صريح للعملية الديمقراطية ككل. بحسب صحيفة الجارديان البريطانية فأن اعضاء في المجلس الوطني من المنتمين للإخوان المسلمين اشرفوا على تسليح ودعم ونقل عناصر هذه الجماعات بغرض الضغط على التيار المدني وحزب "تحالف القوى الوطنية"، والحد من قوة حفتر الناشئة، وفي نفس الوقت شغل هذه الجماعات بمعارك خارج طرابلس والغرب، لكن عشية الانتخابات ومع خطاب تيار الإسلام السياسي مفاده نزع سلاح الميليشيات، توجست الميليشيات الجهادية وسارعت في تشديد حملتها ضد حفتر في الشرق، وتدعيم تواجدها في الغرب بعقد تحالف فيما بينهم وإمالة رؤساء قبائل الجنوب نحوهم بالترغيب في حصة من أرباح النفط، مما يسمح لها في المستقبل بنفوذ تنكسر امامه كل دعاوي نزع السلاح. الأمر الثاني هو استغلال القبائل جنوب ليبيا للوضع السياسي المتدهور في طرابلس وخلق حراك قبائلي له اجندة اقتصادية واجتماعية وسياسية مستقلة، فشهد الشهر الماضي اجتماعاً ضخما للقبائل الجنوبية في مدينة "ورشفانة" جنوبطرابلس، بهدف انهاء الخصومات القبلية وتوحيد كلمة القبائل تمهيدا لمشاركتهم في العملية السياسية التي استبعدوا منها لثلاثة سنوات، وتقديم اجندة مطالب سياسية واقتصادية واجتماعية تتعلق بالموقف من البرلمان والحكومة المقبلة وحصصهم من مبيعات النفط وكذلك ضمان خصوصياتهم الاجتماعية في امور تتعلق بالقضاء والإدارة المحلية، وهو ما استقبله سياسي المؤتمر الوطني وجماهيرهم بالتوجس بل ومهاجمتهم واتهام بعضهم بالدعوة للانفصال أو السعي للتصالح مع رموز نظام القذافي. ثمة طرف جديد دخل إلى ساحة الصراع الحالي في ليبيا، يبتعد عن الاشتباك في المعارك الحالية شرقاً وغرباً، و ويتحضر لما هو أبعد من اشتباكات تذهب ثمارها لصالح هذا الفريق أو ذاك، هذا الطرف الجديد هو التنظيمات المنتمية إلى تيار السلفية الجهادية؛ والتي تتنوع ما بين الانتماء للقاعدة تنظيما أو فكرياً، أو مؤخراً أعلن بعضها البيعة لأبو بكر البغدادي ككتيبة "أبو محجن الطائفي" وعدد من المنشقين عن تنظيم "القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي"..فبحسب تقارير غربية فأن جنوب غرب ليبيا شهد تدفق لآلاف الجهاديين القادمين من ماليوالنيجر أو من جنوبالجزائر، بخلاف استقبال مطار سبها لمئات آخريين معظمهم قادم من سورياوالعراق، وشرقاً شكلت مدن الكَفْرة ودرنة ومعيتيقة مراكز استقبال وتجمع للمجاهدين الأجانب، ومن معسكرات في سبها والبوانيس لتدريب المستجدين منهم. قبل ثلاثة شهور صرح زعيم جماعة "انصار الشريعة" محمد الزهاوي، أن الجهاديين سيتدفقوا على ليبيا من كافة انحاء العالم كما حدث في سوريا، ويبدو أن الزهاوي لم يكن يتحدث سوى عن واقع بدأ بالفعل، ولكنه ربما تغافل عن أن ما حدث في سوريا قد يحدث في ليبيا، وهو أن تتمرد هذه الجماعات الوافدة عن الأطر الاقليمية الراعية لها، والتي يعتبر الزهاوي وكيلها في ليبيا..فتكسر سقف المتوقع والمطلوب منها إلى اجندة خاصة بها، وخصوصا أن الوضع في ليبيا أقل تعقيداً مما في سوريا أو العراق، ناهيك عن كم الأسلحة المتوافر والمتاح والذي يفوق ما بيد الجماعات الارهابية في البلدين السابقين. تواجد الجهاديين بهذا الشكل المكثف والمنظم في ليبيا ينبئ بأمرين، الأول أن استخدام جماعة الإخوان المسلمين هناك للجهاديين كعصا ترهيب قد بدأ في الانتهاء، وأن احتمالية الصدام بينهم ترتبط باستمرارية الدعم المادي لهم وإشراك الليبيين منهم في المؤسسات الامنية والعسكرية، وذلك بخلاف عدم التطرق لمسألة السلاح. الأمر الثاني يرتبط بالأصل بالتغيرات على ساحة الجهاد العالمي، فمن إعلان الخلافة إلى الانقسام بين قطبي الجهاد العالمي (الدولة الاسلامية-والقاعدة)، وهو آجلاً أو عاجلاً سينعكس على ليبيا بتفاقمه بين الجهاديين المتواجدين فيها، والذي من الممكن ان يتحول جزء كبير منهم في ليلة وضحاها إلى منهج "الدولة الإسلامية" وإعلان إمارة إسلامية على جزء من أراضي ليبيا، والاتجاه للصدام المباشر والحاسم مع كل من يختلف معهم، ومن ضمن ما يعنيه هذا الأمر هو تحول ليبيا ساحة للتناحر الجهادي-الجهادي على غرار سوريا، ولكن بتأثيرات أشد ستطول دول الجوار شرقا وغربا وجنوبا، وهو ما يحيلنا إلى الأمر الثالث وهو الخوف من امتداد نشطات الجهاديين في ليبيا إلى مصر والجزائر، فأولا أماكن تمركزهم تشي بأنهم يركزون على التواجد في التخوم الحدودية سواء مع مصر أو الجزائر، وهو ما يسهل الربط بينهم وبين الجماعات المشابهة لهم جنوب الصحراء الكبرى من النيجر وحتى السودان. النقطة السابقة استدعت تنسيق مصري-جزائري على مدار الأسابيع الأخيرة، ولم يكن ببعيد عن أوربا والخليج وربما الولاياتالمتحدة، أخره غلق الحدود مع ليبيا من جانب البلدين، وما تبع ذلك من حزمة اجراءات امنية لتتبع حركة الجهاديين واماكن تواجدهم تفصيلاً. الجزائر من جانبها رفضت كافة محاولات الزج بقواتها داخل ليبيا، وحتى ان كان تدخلها العسكري بغطاء سياسي يتكفل به بعض الساسة وأعضاء البرلمان في ليبيا، وتحت مظلة اقليمية، فذكرت وكالة أنباء الأناضول أمس أن "أعضاء في البرلمان الليبي المنتهية ولايته، ولهم ثقل سياسي، ومسئولين سابقين في الحكومة الليبية زاروا الجزائر نهاية يونيو الماضي وطلبوا تدخلًا عسكريًا جزائريًا لفرض الشرعية في العاصمة طرابلس وطرد الميليشيات المتناحرة في محيط مطار طرابلس، وأنهم قدموا للجزائر مبادرة تتضمن تدخلًا عسكريا جزائريا تحت غطاء الجامعة العربية والأمم المتحدة، وهي المبادرة التي لقيت، حسبهم، قبول الحكومة المصرية وكل من فرنساوالولاياتالمتحدةالأمريكية وكان رد المسئولين في الجزائر أنهم أبلغوا المبعوثين القادمين من ليبيا أن الجزائر ترفض التدخل عسكريا خارج حدودها حتى ولو تحت غطاء دولي أو بدعوة من البلد المعني". أما عن مصر، فلا يوجد حتى الأن أي تصريح رسمي بشأن تدخل عسكري في ليبيا من أي نوع، باستثناء تصريحات عمرو موسى أول أمس، التي أعرب فيها عن ضرورة نقاش داخلي "لتوعية الرأي العام في مصر من مخاطر الوضع في ليبيا لبناء تأييد لازم في حالة اضطرارنا لاستخدام حق الدفاع عن النفس"، وهو يتسق مع ما أعلنه الرئيس عبد الفتاح السيسي مطلع الشهر الجاري في مؤتمر صحفي جمعه برئيس الوزراء الإيطالي ماثيو ريتزي، مفاده أن القوات المسلحة قادرة على حماية حدود مصر مع ليبيا. حتى الأن سيناريوهات التدخل العسكري المباشر في ليبيا بعيدة، سواء كان التدخل تحت مظلة عربية أو أممية وبطلب ليبي، ولكن بالطبع لا يعني أن جميع الاطراف المعنية خارج ليبيا ستقف صامته إزاء تنامي المخاطر الجهادية/الارهابية على حدودها، فوجود أمثال اللواء حفتر أصبح ضروري لضمان أمن الحدود بالحد الأدنى، وهو ما يعني استمرار الحرب بالوكالة داخل ليبيا بين المحاور سالفة الذكر.