يظن البعض أن دول الغرب الأوروبي-الأمريكي والمؤسسات التابعة لهم ابتداء من منظمات الأممالمتحدة وانتهاء بالاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي يعملون على إنهاض مصر من كبوتها الاقتصادية، وذلك عندما يقدمون النصيحة لإولى الأمر في بلدنا برفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج كخطوة أولى على طريق الإصلاح الإقتصادي وترقية أحوال البلاد. وهذا الظن وهم كبير، ذلك أن أصحابه لا يدركون أن هذه النصيحة في الأساس تستهدف خدمة الاستثمارات الأجنبية في مصر وبالتبعية يستفيد منها أصحاب رأس المال التجاري والصناعي والزراعي والخدمي من المصريين (رجال الأعمال). والحكاية ببساطة أن رفع الدعم عن مستلزمات الإنتاج سوف يعطي الحرية لأصحاب رأس المال (الأجنبي والمحلي) في أن يطرحوا منتجاتهم في السوق طبقا لأصول التسعير الرأسمالي، ألا وهو ضمان الربح دون الخسارة أو الربح الكبير مع الخسارة القليلة. وفي كل الأحوال فإن أولئك الرأسماليين لا يهمهم في قليل أو كثير أن تكون أسعار المنتجات المعروضة وكذا الخدمات تتناسب مع أجور العاملين بمختلف فئاتهم. ومن هنا فإن رفع الدعم عن سعر البنزين والسولار يؤدي بطبيعة الحال إلى رفع أسعار سائر المنتجات التي تبدأ دورتها بنقل المادة الخام إلى مناطق الإنتاج ومنها إلى سوق الاستهلاك. وبهذا وعندما يدخل الرأسماليون الأجانب إلى السوق المصري في إطار هذا المناخ "الحر" غير المقيد بدعم يفرض أسعار تتناسب مع الأجور، ينتهي الأمر بسيطرتهم على السوق المصرية وإفقار الرأسماليين المصريين أنفسهم وتحويلهم إلى وكلاء تجاريين مثلما كان الحال في مصر زمن الامتيازات الأجنبية. أما المصلحة الثانية للغرب من المطالبة بإلغاء الدعم فتبدو في فتح أسواق خارجية لتصريف فائض المنتجات، والاستثمار بتكاليف أقل من تكلفة الاستثمار داخل بلادهم، وتحويل أرباحهم إلى بلادهم ومنها ينفقون على زيادة الخدمات لكافة العاملين بمختلف شرائحهم فيحدث السلام الاجتماعي ويتجنبون قيام الثورة الإجتماعية. ومما يدل على صحة هذا الفهم لمغزى مطالبة الغرب لمصر بإلغاء الدعم، أن صحيفة الفايننشيال تايمز اللندنية رحبت بقرار الحكومة المصرية الأخير بخفض الدعم على البنزين والسولار قائلة: إن قرار الحكومة المصرية يعتبر إصلاحا هيكليا ضروريا وسيقابل بالترحيب من المستثمرين وشركات البترول العالمية والجهات المانحة التي دعت مصر إلى إجراء إصلاحات اقتصادية، وأن القرار سيضع مصر في موقف قوي (راجع أهرام 7 يولية). وعلى هذا فإن المأزق الذي تواجهه الحكومة المصرية حاليا ليس فقط رفع الأسعار، ولكنه الخوف من أن استجابتها لمطلب صندوق النقد الدولي يضعها في دائرة التبعية من جديد، مع أن هناك بدائل للإقتراض الخارجي تبدو في الحلول الذاتية التي يتحملها الأغنياء. لكن إذا كانت الحكومة من أصحاب رأس المال أو ممن يعملون في خدمة مصالح رجال الأعمال فلا أمل في تجاوز المحنة، وكأن الحكومة بتصرفاتها تمد الحبل لخصومها ليشنقونها ويتجدد مرة أخرى شعار "الثورة مستمرة". وينبغى الاعتراف بأن محنتنا مع الغرب الرأسمالي بدأت مع الرئيس السادات الذي وافق على شروط صندوق النقد الدولي بناء على نصيحة الرئيس نيكسون عند زيارته لمصر (19 يونية 1974) من حيث ضرورة تحرير الاقتصاد المصري أي إلغاء القطاع العام وتحرير علاقات الإنتاج من إشراف الدولة. وكانت باكورة سياسة رفع الدعم انطلاق مظاهرات 18-19 يناير 1977 التي وصفها بانتفاضة الحرامية، واضطر السادات لإلغاء قرار رفع الدعم. لكن الحكومة تعلمت من هذا الدرس ألا تعلن عن رفع الدعم عن أي سلعة أساسية حتى تبرىء نفسها أمام الشعب ولكن الأسعار كانت تزداد يوما بعد يوم دون رقابة حكومية حتى رفع ثوار يناير 2011 و يونية 2013 شعار العدالة. والخلاصة أنه إذا كان رفع الدعم فيه شفاء للإقتصاد المصري فلا ينبغي أن يتحمل الفقراء وحدهم تكاليف هذا العلاج، ولابد أن يتحمل أصحاب رأس المال نصيبهم من هذا العلاج وفي مصر خبراء في الاقتصاد يستطيعون تقديم الحلول المناسبة لكنهم مبعدون عن الساحة عملا بحكمة: زمار الحي لا يطرب .. والشيخ البعيد سره باتع".