قبل كل شيء أتقدم بالتعازي لمصر الحبيبة في شهدائها الأبرار الذي ارتفعوا- ولا أقول سقطوا – إلى أعلي مكان من ضمير وتاريخ أمتهم بيد مجرمة آثمة أيا كانت تلك , وليس ببعيد عن دم الشهداء الأحرار أن نتكلم عن واحدة من مقدمات المشهد الدامي وهي وثيقة السلمي , فهي نقطة بارزة في خط سير الاجهاز علي الثورة واعادة تكريس ما ثارت مصر ضده ! كنت أتمني للدكتور علي السلمي الايتورط في هذا ( العجن ) الدستوري المثير للأسي والضحك المر فليس من المعقول الا تنتج الثورة بيد من أمسكوا بزمامها بقوة الأمر الواقع قانونا للعزل السياسي ثم تنتج هذا المسخ المشوه متمثلا في تلك الوثيقة , ولكن ماذا نفعل للسلطة وكرسي السلطة في مصر وتأثيره الرهيب سلبا في الغالبية الساحقة من الجالسين عليه علي مدي تاريخنا حتي أننا في العادة نقسم تاريخ من توليها الي قبل وبعد السلطة. كنت أعجب وأنا طالب بالجامعة عندما أعرف أن أستاذا لنا عرض عليه أن يكون وزيرا فأبي , وكنت أعجب من تبرير بعضهم الرفض بأنه (اشتري نفسه ) ! لم تكن الحقائق بادية أمام ناظري في ذلك الوقت ثم انجلت الحقائق ساطعة تشع مرارة فيما بعد أمام ناظري , فليست السلطة المطلقة وحدها مفسدة ولكن يبدو أن السلطة في بلادنا لها أثر سيء علي أكثر الناس الا من رحم ربي ! فهل يدخل السلمي نفس بابي سابقيه باب الانتماء لأحلام الناس ثم باب الانقضاض علي تلك الأحلام مع تولي السلطة ؟ دخل اسماعيل صدقي التاريخ مناضلا وكان صديقا لمصطفي كامل باشا منذ كانا طالبين بالحقوق , ثم كان رفيق سعدذغلول باشا الي منفاه ابان ثورة تسعة عشر ثم لما صار رئيس الوزراء خرج من الباب الأول ودخل من باب أسود فهو من فصل دستور الف وتسعمائة وثلاثين علي هوي الملك فؤاد المستبد بطبيعته وتكوينه وضرب عرض الحائط بدستور الف وتسمائة وثلاثة وعشرين وهو الدستور الذي نالته مصر بعد كفاح مرير ضد سلطة الملك وعقب ثورة تسعة عشر , وأصبح هو المحتمي بسلطة المندوب السامي البريطاني ثم صار علامة ومثلا علي الحكم القمعي والقهر وملاحقة الأحرار سجنا وضربا وسحلا ! ودخل النقراشي باشا التاريخ ضمن قيادات ثورة تسعة عشر فلما صار رئيسا للوزراء ووزيرا للداخلية ارتكبت في عهده مجزرة كوبري عباس الثانية ضد الطلبة المتظاهرين مطالبين بجلاء بريطانيا عن أرض مصر , وكانت المجزرة الأولي في عهد الملك فؤاد ووزارة نسيم باشا في العام الف وتسعمائة وخمسة وثلاثين . وكان صوفي أبو طالب أستاذا جامعيا مرموقا , وكنت أحد تلاميذه , وكان يبدي رأيه علنا وبلا تردد حتي في المسائل الشائكة , وكان يهاجم الاتحاد السوفيتي وأطماعه في مصر بعد هزيمة يونيو عام الف وتسعمائة وسبعة وستين , وقد سمعته مندهشا معجبا بقوته في قول الحق , فلما صار رئيس مجلس الشعب كان هو من وصف حملة اعتقالات السادات لخصومه بالثورة الثانية كما وصف اعتقال السادات لخصومه في العام الف وتسعمائة وواحد وسبعين بالثورة الأولي ! ونعود الي الوثيقة الكارثية فقد عمدت الي دس السم في العسل , ولكن العسل باهت اللون سيء الطعم فاقد الصلاحية بينما السم ناقع قتال , وهناك أسلوب شائع في التمويه لم يكن السلمي فيه أستاذا بل مجرد تلميذ مبتديء , وقد مارسه علي مدار التاريخ كل من قننوا للطغيان , والمثل الشعبي المقابل له هو اثارة مشاجرة ترتفع فيها الأصوات ويعلوا الصراخ بينما الهدف من اثارتها هو استلاب مال بعض من ينشغلون بالصراخ المفتعل , وكانت استفتاءات السادات بوجه عام نموذجا لهذا الخداع , فكان يضع بنودا تدغدغ مشاعر الناس هي العسل الزائف بينما يدس في الاستفتاء مزيدا من الكوابح علي حرياتهم ويضع عقوبات تصل الي الأشغال الشاقة ! تغرق الوثيقة القاريء في تفاصيل طويلة لاخلاف عليها ولا نعرف جدوي لطرحها فهي من قبيل المسلمات الوطنية مثل لغة مصر الرسمية وأنها العربية وأن دينها الرسمي هو الاسلام وأنها دولة جمهورية ثم تتطرق الي عبارات انشائية ليس لها أي مضمون محدد مثل الحديث عن التمنية الشاملة وعن نهر النيل وأهميته وأن مصر جزء من قارة أفريقيا وهو كلام عجيب كأن يقال ان الشمس تشرق صباحا من الشرق أو أن ليبيا هي الجارة الغربية لمصر , فهل زعم أحد أن مصر جزء من دول اسكندنافيا ؟ أم أنه الغبار الانشائي والكلام المكرر المريب وأن بيت القصيد في الوثيقة النكبة هو ماجاء ببندها التاسع وبندها الأخير حيث تقرر الوثيقة أن القوات المسلحة هي وحدها التي توافق – وحدها ودون غيرها !!! – علي أي تشريع يتعلق بها ومناقشة مواد ميزانيها !!!! وهي بهذه المثابة تصبح دولة لاداخل الدولة بل فوق الدولة , ثم نصل الي البند الأخير وهو مراقبة القوات المسلحة لعملية وضع الدستور بحيث تكون رقيبا أعلي ووصيا لاترد كلمته هي ومن بعدها المحكمة الدستورية علي واضعي الدستور فاذا رأت أن الجمعية المشكلة جنحت الي ماينافي المقومات الأساسية للدولة والمجتمع المصري أو الحقوق والحريات العامة أن تطلب من الجمعية اعادة النظر في النص أو النصوص الجانحة فان أبت عرض الأمر علي المحكمة الدستورية العليا لتصدر قرارا يلزم الجميع وهنا تكون كلمة المحكمة فوق ارادة كل ممثلي الشعب وهم جيش جرار من الشخصيات العامة ورجال القانون عددهم ثمانون عضوا يمثلون كل أطياف المجتمع وكل طوائفه ومنهم قضاة كبار وأساتذة قانون دستوري وهو عجن عقيم ولولا ترددي في قول ما يسيء لأوردت وصفا أشد قسوة من وصف العجن ! ولنا أن نتساءل هل للوثيقة من هدف حقيقي غير ماتعلق بتقرير امتيازات للقوات المسلحة , وأنا أجزم – كرجل قانون – بلا والف الف لا . ان الدستور يعلو ولايعلي عليه في كل بلاد العالم المتحضر , وترجمة الكلمة الانجليزية والفرنسية هي تكوين أو تشكيل مبدئي والمصطلح يعني القواعد الأساسية التي يبني عليها كل قانون لاحقا , وقد درست – ككل طلبة الحقوق – مادة القانون الدستوري في السنة الأولي , وعلي هذا فكل من تجاوز في دراسة القانون عاما واحدا يعلم أن ما أوردت هو بديهيات لامجال للمساومة فيها أو الأخذ والرد , ثم مامعني أن توافق القوات المسلحة علي التشريعات المتعلقة بها ؟ وماذا لو طالبت كل الجهات و الهيئات خاصة تلك التي لها صلة بالقانون والتشريع أكثر من صلة القوات المسلحة كالقضاء مثلا , فهل يجوز أن يوضع نص يقرر للقضاء حق أن يوافق وحده دون غيره علي أي تشريع يتعلق به ؟ وما هو الدافع لهذا الكلام العجيب من الأصل ؟ وماالداعي الي فرض وصاية علي الناس مقدما من قبل القوات المسلحة؟ وهل دفعت مصر ثمنا عزيزا من دم أبنائها الأبرار لتنال حريتها ثم تجدها في النهاية تنتقل من وصاية مبارك الي وصاية القوات المسلحة علما بأن الدم الذي أريق هو دم جموع المصريين وبرغم أن القوات المسلحة هي من الشعب ومملوكة له فانها لاقامت بالثورة ولا أريقت دماء أبنائها وحتي لو كانت هي التي أجهزت علي النظام البائد فان ذلك ماكان يصح مسوغا عقلا ولامنطقا لأن تصبح دولة فوق الدولة لها وصاية علي الشعب كله بكامل أطيافه ؟ فمتي نكف عن مثل هذاالنهج و الفكر ؟ الايكفي – هما وغما – أن غالب أجهزة الاعلام حذفت اسم مبارك من قصائد المديح اليومية ووضعت مكانه اسم المجلس الأعلي للقوات المسلحة ؟!! ولماذا التردد فيما قامت الثورة لأجله كالتطهير بينما نجد الاندفاع السريع فيما قامت الثورة لمناهضته كتكريس الوصاية علي تسعين مليون مصري بينهم خريجو جامعات يعادلون عدد سكان دولة العدو الصهيوني في أرضنا المحتلة ؟ وأخيرا أتوجه بالنصيحة الخالصة للدكتور علي السلمي , لوجه الله ولوجه مصر , لو كنت مكانك لفعلت أمرين لاثالث لهما هما سحب الوثيقة والاستقالة فورا مع تقديم الاعتذار عنها لكل المصريين , عندها , وعندها فقط سوف ننسي للسلمي وثيقته ويعود الي صفوف الجماهير التي خرج منها .