سُئل الأفغانى عن قول المعري: والذى حارت البرية فيه حيوان مستحدث من جماد هل يقصد ما عناه داروين بنظرية "النشوء والارتقاء" فقال: لا أغالى ولا أبالغ إذا قلت ليس على سطح الأرض شئ جديد، بالجوهر والأصول، تبتكر فى الكون محدثات، وتحدث أمور، وتقرر علوم، يؤخد ويعمل بها أجيالا، ثم تطرأ عوامل مختلفة، تندثر بها تلك الكحدثات، وتجعل تلك العلوم إذ يحجبها الخفاء، وتحفظ أحيانًا بعص رفات آثارها (طبقات الأرض)، وكذلك ما يحدث من عظائم الأمور، قد تذهب مع جيلها، وربما يبقى شئ من أثرها فى خرائب أهلها، هكذا القول فيما يزهو، وما يتمحص ويتقرر من العلوم عند أجيال مضت، وقد تموت من أربابها أو تمحى بمحو ما أودعت فيه من كتب الأسفار. فالسعيد من الخلف من يعثر على أثر من آثار السلف فينتبه بكليته اليه، ويعمل على بعثه من موته، أما بإخراجه من الخرائب، وإما بنقب طبقات الأرض، وإما بمناجاة أرواح قائليه وفاعلية. وهكذا يعيد الإنسان الكرة على قديم مبتكرات الأسلاف من المحدثات والأمور العظيمة، والعلوم والفنون الغربية (عندنا اليوم) وذلك بسوق غريب، وعوامل عجيبة تعمل فى عقل الإنسان فى سائر الأزمان. بينما الإنسان اليوم سائر فى البحث والتجربة، يقصد أمرا فإذا هو (عرضًا) يعثر على نتائج لم تكن بحسبانه، فينشط لها عقله، ويصرف إليها همته، ولا يزال يكد ويجرب ويجد، حتى يتيسر له وضع أساس الاكتشاف أو الاختراع أو تقرير قواعد كلية، لعلم أو فن. أما مقصد أبو العلا المعري، فظاهر واضح، ليس فيه خفاء، فهو يقصد النشوء والارتقاء ، أخذا بما قاله علماء العرب قبله بهذا المذهب، إذ قال أبو بن بشرون فى رسالته لأبي السمح، عرضًا، فى بحث الكيمياء "أن التراب يستحيل نباتًا، والنبات يستحيل حيوانًا، وإن أرفع المواليد هو الإنسان "الحيوان" هو آخر الاستحالات الثلاثة وأرفعها .. وإن أرفع مواليد التراب (ومنه المعادن) النبات، وهى أدنى طبقات الحيوات، سلسلة تنتهى عند الإنسان .. ألخ .." فإذا مذهب النشوء والأرتقاء على هذا الأساس، فالسابق فيه علماء العرب، وليس داروين مع الأعتراف بفضل الرجل، وثباته وصبره على تتبعاته، وخدمته للتاريخ الطبيعى من أكثر وجوهه، وإن خالفته وخالفت أنصاره فى مسألة "نسمة الحياة" التى أوجدها الخالق سبحانه وتعالى، لا على سبيل الارتقاء من سعدان، الإنسان، أو من الزوابع المائية أو أن البرغوث سيكون بعد ألوف أو ملايين السنين فيلاً عظيما، لأننا نرى اليوم فى البرغوث ما يشبه الفيل، وغير ذلك من المباحث التى دونتها فى رسالة "نفي مذهب الدهريين"، ردًا لعى داروين وأشياعه، وأرى إغراقًا فى نسبة الأبداع والأبتكار للنشوء والارتقاء والانتخاب الطبيعى. ولو قال بذلك مثل بخنر وهسكلي وسبنسر وغيرهم من علماء الغرب ممن لوجاز ترك مناقشتهم فلا يسعنى أن أمر عل ذكر حكيم شرقي، انخرط مع من ذكرت من العلماء من أيدوا مذهب داروين واخذوا بناصره وهجموا على مألوف الشرقيين بقواعد ذلك المذهب، فمن حيث الجهر ومعتقد يعتقد الإنسان أنه اعتقاد صحيح ولو خالف الجمهور فالدكتور شميل له من نشر مذهب داروين وتحمله أعباء الكثيرين له (عن غير علم وتحقيق) يعد للشميل فضل ولكن لا أرى الدكتور شبلي قد تخلص من جرأته الأدبية، وبعض رسوخه فى الفلسفة من وصمة التقليد الأعمى لعلماء الغرب، وبمعنى أوضح، أنه أراد أن ينتصر لداروين، وأن ينشر مذهبه رغم أهل الأديان فى ذات الوقت عارض أستاذه، وصاحب المذهب المنتصر له. إذ لا يخفى أن القصد من مذهب الماديين، والوصول إلى أن الإنسان تدرج من الحيوان، وأعظم دليل لهم ما يرى فى السعدان والقرود وأعلى أنواعه "الأورانغ أوطان" من الذكاء والحركات وتركيب الأعضاء ثم أنهم نظروا فى أجنة ذوات الفقر، ومنها الإنسان، فرأوه يمر نموه بدرجات الحيوانات التى دونه حتى الأحفورية السابقة لها … ألخ . ولكن يتوصلوا إلى جحود خلق الإنسان بتقويمه الحسن هذا، رأيناهم يرقدون وراء الأحافير، ويغوصون فى طبقات الأرض وإمامهم فى مذهب النشوء والأرتاء هو داروين بلا شك ، وهذا الحكيم لما وصل إلى النقطة الجوهرية وهى موجد نسمة الحياة لم يسعه إلا أن قال إن الخالق هو الذى نسمة الحية فى الأحياء، وهذا قولخ بالنص الواحد: إنى أرى أن الأحياء التى عاشت على هذه الأرض جميعا من صورة واحدده أوليه نفخ الخالق فيها نسمة الحياة إن قول \داروين هذا ينفى ظهور الحياة على سبيل طبيعى ولكنه لم يرق لعلماء الطبيعة الماديين وأنكروا على داروين هذا القول وأتهوه من الخوف من أهل دينه وقالوا إن قوله هذا يجعل المذهب ناقصًا بل ينقضه من أساسه لأن الغاية كما ذكرنا من مذهب الطبيعيين إنكار الخالق وإسناد الأعمال إلى الطبيعة. هذا مقام الحيرة لمريدى مذهب داروين فأما أن أن يكون إمام مذهبهم داروين قال رأيه السابق عن علم وتحقيق وفيه كما قال نقض لأساس المذهب فإما أن يكون الخوف الذين اتهمون به أهل الأديان، حمله على الجهر بهدم أساس مذهب الطبيعيين. وبالنتيجة، يريد الدكتور شيميل، والأستاذ برن وغيرهما أن يوافقوا داروين إذا أصر على إنكار الخالق، ويخالفوه إذا أقر بوجوده. وبالاختصار أن كل ما جاء فى مذهب الطبيعيين من حصر الأحياء بأنواع قليلة، وتفرع الكثير منها وعنها، كل هذا لا يضر الالتسليم به كما أنه لا يفيدهم أن الحياة وظهور الأحياء نتيجة طبيعية لقوى طبيعية ، نعم إذا أمكنهم إثبات التولد الذاتى كان الأقوالهم معنى ولمذهبهم مستند. هذا والذى رأيت ما يؤاخد به الحكيم الشميل، وقد خالف إمامه وأستاذه داروين، وفى ماعدا ذلك فإنى أقدر الشميل قدره فى دقة بحثه وتحقيقه وجرأته على بث ما يعتقده من الحكمة، وعدم يهيبه من سخط المجموع لما يجهله من حقائق العلم. أما الأنتخاب الطبيعى فهو فى جيل البداوة وفى حضارة الإسلام أمر معروف ومعمول به، سواء أكان فى أنتخاب الزوجات من النساء والنجيبات من الأمهات فيخطبون بناتهم وفى ذلك أقول مأثورة: القول خذ لأبنك خالا أى زوجه يكون لها من الصفات الطيبة وحسن الخلق والخلق والمزايا لأخواتها حتى إذا جاء الولد يكون فيه من الوراثة عن طريق أه ما يشبه أخواله من موجبات الفخر كذلك عن طريق الأب فيشبه الاعمال فيفتخر أو يمتدح فيقال فلان معم مخول أو فى تحسين نسل الخيل. وأما حرص العرب على الأنتخاب الطبيعى فى تحسين الحيوان فأمر مشهور إذ البدوى إلى اليوم يطوف البرارة والأمصار ليجد إى فرسه جواد من جواد الخيل ويحرصون على حرص أنساب الخيل حرصهم أو أكثر من حرصهم على أنساب البشر. * سعدان: القرد المصدر: الخواطر