يعتبر عرض "الغرباء لا يشربون القهوة"، لفرقة مسرح الغد التابعة للبيت الفني للمسرح، إخراج حمدي أبو العلا، انعكاسًا لإحدى أهم أزمات مسرح الدولة تحديدًا بفرقه المختلفة، وهو الرغبة في استدراج جمهور آخر غير الجمهور الطبيعي، ولا نقول التقليدي لهذه العروض. ونقول استدراج وليس جذبًا، وشتان ما بين الفعلين، فعندما يكون لديك نص جيد بشكل مميز مثل نص الغرباء للكاتب الكبير محمود دياب، يعرض قضيته المتماسكة من خلال سياقات الدراما التي تقترب من العبث على مستوى الشكل، بينما أقدامها مغروزة في أكثر من واقع اجتماعي وسياسي وإنساني، وعندما تتحصل على ممثل مخضرم لديه مخزون من الخبرة الانفعالية والتشخيصية مثل محمد متولي، بالإضافة إلى شكله المتسق مع الشخصية الرئيسية والوحيدة تقريبًا في العرض. وعندما تكون لديك قاعة حميمية جدًّا تناسب بدقة الإطار البصري العام للنص والإطار الموضوعي للعرض على حد سواء، مثل قاعة مسرح الغد، خاصة أن العمل يدور حول مواطن يحاول أن يحمي بيته وذكرياته وتاريخه الشخصي والعام من هجوم مجموعة من الغرباء المنفرين بحجة احتلال البيت والتاريخ، فيبدو المتلقون وكأنهم يجلسون أمام البيت بالفعل. عندما تجتمع لديك كل هذه العناصر، فما الذي ينقصك كي تحاول جذب الجمهور الذي يمكن أن يستمتع بكل هذا ويوفيه حق التلقي والاستيعاب؟! إن الأزمة التي نتحدث عنها والتي تتجلى من واقع هذا العرض هي أن صناعه لا يعلمون إلى أي جمهور يتوجهون، هناك دومًا جمهور مستهدف مهما اتسعت قاعدته أو تنوعت، فالجماهير أنواع وطبقات وشرائح، وليس من المفترض أن يلاقي كل عمل فني أيًّا كان شكله أو مضمونه التقبل والإقبال من كل الشرائح والطبقات، صحيح أن هناك أعمالاً تجمع بين أكثر من شريحة جماهيرية بعضها متسع شعبويًّا، وبعضها الآخر على درجة من النخبوية، ولكن تظل القاعدة النسبية هي أن لكل عمل فني متذوقيه وجمهوره. ما فعله المخرج حمدي أبو العلا والممثل محمد متولي هو أنهما أرادا استدراج شرائح من الجمهور التي من الصعب أن يكون المسرح عامة ضمن نطاق اهتماماتها فيما يخص المشاهدة أو فعل "الفرجة" بمفهومه الأشمل، في حين تجاهلا أو اعتبرا أن الجمهور "الطبيعي" لهذه العروض سوف يأتي بنفسه دون حاجة منهما لاستدراجه بأية وسائل "رخيصة" مثل الجمهور الآخر. وما نقصده بالوسائل الرخيصة يتلخص في أن العرض مأخوذ عن نص محكم ومكثف الدلالات، هو نص "الغرباء لا يشربون القهوة" للكاتب الراحل محمود دياب، وهو أحد نصوص ثلاثيته المسرحية الشهيرة "الرجل الطيب في ثلاث حكايات"، ونص الغرباء يعكس حالة الرعب والفزع الباطني التي يعيشها المواطن صابر عبد الشكور في محاولة فهم واستيعاب هذا الهجوم المباغت والضاري والعنيف من قبل بعض الغرباء على منزله، بينما يحاول هو أن يقدم لهم القهوة وهي رمز كرم الضيافة العربي، في حين يرفضون هم بشدة وبلا مبرر تناولها، ويكررون في عنف عبثي "نحن لا نشرب القهوة"؛ لكي يفهم أنهم أعداء وليسوا ضيوفًا يجدر إكرامهم أو أصدقاء يمكن أن يستأمنهم على نفسه وبيته وتاريخه. الرجل يدعى صابر وزوجته تدعى علية، وابنهما الغائب الذي يعتبر أمل أبيه في البقاء والتخلص من هجوم الغرباء يدعى عز، ودلالات الأسماء بالطبع واضحة، كما أن السياقات الفكرية والوطنية – إن جاز التعبير – تبدو أيضًا على قدر من المباشرة، فالأب هو الجيل الذي أصر على البقاء في الوطن محاولاً الدفاع عن البيت بكل رمزيته، والابن وهو العز والعزة والمعزة غادر ضمن من غادروا الحارة القديمة بحثًا عن وطن آخر فيه من المال والراحة ما لم يعد متوفرًا في حارة البيت القديم، وعلية التي لا نراها هي رمز اسمي لكل ما هو راقٍ وسامٍ وغالٍ لدى الأب الذي يجلس أمام البيت في وضع حراسة علني وواضح، بينما تخرج له علية فناجين القهوة التي يعشقها كي "يتمزج" بها ويضيِّف الغريب العابر أو الصديق المقيم. وتدريجيًّا يظهر الغرباء على شكل متواليات هجومية، بداية من فردي استطلاع يجمعان بعض المعلومات ثم قوة كاملة بعضها أقرب للبشر والآخر يتخذ شكلاً ووضعًا حيوانيًّا أقرب لكلاب الصيد، ثم قوة هجومية شاملة أخيرة، وهي التي تقوم بتمزيق الأوراق التي يحفظها المواطن صابر في بيته والتي تحمل تاريخه الشخصي والمتقاطع مع التاريخ العام للمجتمع، وكأن الغرباء لا يحاولون فقط احتلال البيت ولكن طمس التاريخ أيضًا ونفيه. الديكور عبارة عن واجهة البيت العتيق الجميلة والبراقة والتي تبديه وكأنهم انتهوا من بنائه بالأمس القريب، بينما يشير الرجل إلى أنه بيت قديم جدًّا، لكنه استطاع أن يحافظ عليه، وقد استغل المخرج ومهندس الديكور مساحة الخشبة الأساسية في صناعة باحة أمامية للمنزل والتي تتحول أثناء الصراع ومقاومة الغرباء إلى شبه ساحة حرب، وبينما كانت حركة الغرباء في البداية قليلة وعددهم أقل أثناء فترة الاستطلاع وجمع المعلومات قام المخرج بنشرهم على طول الخشبة وعرضها بعد تطور الهجوم؛ كي يقوموا باحتلال الكادر المسرحي بأكمله؛ في دلالة على الغزو والسيطرة. حميمية قاعة العرض التي سبق وتحدثنا عنها تجعل المتلقين يشعرون بأنهم يجلسون في تلك الباحة أو في البيت المواجه لبيت الرجل، وهي حميمية نابعة من كونها قاعة صغيرة لا تحتوي على خشبة رسمية بالمعنى التقليدي، ولكنها أقرب للمنصة العالية منها للخشبة؛ وبالتالي يشعر المتفرج أنه جزء من السياق الحركي والدرامي للحدث، وعند وصول العرض لذروة الأزمة حين يبدأ الغرباء في تمزيق تاريخ الرجل وأوراقه، يشعر المتلقي أنه يريد أن يشارك في المقاومة وعملية المنع؛ نظرًا لقرب المسافة بينه وبين الخشبة وساحة الصراع. هي إذًا اختيار موفق جدًّا، حتى ولو تم عبر الصدفة أو لمجرد أن العرض يقدم من فرقة مسرح الغد وأصدقاء مسرح الغد – وهم مجموهة الهواة الذين قدموا أدوار الغرباء – أين إذًا الوسائل الرخيصة التي تحدثنا عنها؟!! يمكن مما سبق أن نجد أن العرض توافرت له وفيه العديد من الميزات الفنية الجيدة والراقية والناضجة على مستويات كثيرة، ولكن ما حدث أن كلاًّ من المخرج وهو نفسه معد النص والممثل الأول أصرا على أن تكون هناك مساحة للخروج الدائم عن النص عبر مخاطبة الجمهور تارة دون داعٍ أو بشكل مفتعل، وليس من قبيل كسر الإيهام على سبيل المثال أو التغريب الذي يورط الواقع في المتخيل. كذلك قاموا بإفراد مساحة غير قليلة من زمن العرض لكي يلقي فيها الممثل بعض الإفيهات البذيئة في بعض الأحيان عن مؤخرة أحد الممثلين والجرح الذي أصابه فيها، وغير ذلك من تلك الإشارات الدونية التي كان المسرح السياحي يشتهر بها أيام انتكاسته الشهيرة في الثمانينيات والتسعينيات. هذه إذًا ليست السياقات التي يمكن أن تأتي على هوى أو ذائقة الجمهور "الطبيعي" لمثل هذه العروض، بل هي مجرد محاولة خائبة لاستدراج شرائح جمهور الأفلام السبكية من هواة الإفيهات القبيحة الفجة، وهو جمهور مختلف تمامًا وغير معنيٍّ بمثل هذا العرض، وحتى لو أن هناك نية إيجابية أو هدفًا ساميًا وراء استقطاب هذه الشرائح أو غيرها، فإن الهدف لا يتحقق بالنزول بلغة العرض وأسلوبه وسياقاته إلى مستوى هذا الجمهور الضحل، فالأصل في الفن الارتقاء وليس التدني. ما حدث أن العرض لم يستطع أن يجذب الشرائح التي وضع كل هذه البذاءات من أجلها، ولم يحز من ناحية أخرى على كامل احترام وتقدير جمهوره "الطبيعي" على عكس ما كان متوقعًا في حال التزامه الفني وإخلاصه لعناصر القوة والتأثير الانفعالي والفكري التي يتضمنها النص. أما محمد متولي فبعيدًا عن كل هذا الهراء المقحم هو "مشخصاتي" رائع لديه قدرة على التعبير الصوتي بشكل فذ والانتقال الشعوري صوتيًّا وملامحيًّا من الصرامة إلى القهر ومن الضعف إلى المقاومة ومن الأسى إلى الحنين، كما أن ملامحه وخطوطه الجسدية التي تشعرنا أنه طفل عجوز كانت شديدة الاتساق مع شخصية المواطن الطيب صابر الذي يبدو بالفعل أقرب لطفل كبير؛ ولهذا كانت أغلب أوراقه وتاريخه مرتبطة بفترة الطفولة السعيدة. على مستوى الدراما، كون النص واحدًا من ثلاثة نصوص تكمل بعضها بعضًا بشكل أو بآخر، بدت النهاية أو الذروة الأخيرة أقرب إلى انتكاسة ما بعد الذروة، أو "الأنتي كلايمكس" بالتعبير الدرامي، فالمواطن يدخل في مونولوج طويل يستجير فيه بالله ويدعو ابنه أن يعود؛ كي يسانده في محنة الهجوم على البيت، ويتشبث بالشجرة العتيقة التي تمثل آخر أمل له في إثبات نسب البيت والتاريخ إلى أصحابه، ولكن العرض يبدو وكأنه ينتهي فجأة دون إنذار أو ذروة مشبعة. صحيح أن النهاية المفتوحة مقصودة بالطبع ومطلوبة أيضًا، ولكن حتى لو أن النص نفسه ينتهي بتلك النهاية، فعلى العرض أن يلتفت إلى المتلقي غير القارئ، وأن تأثير الكلمات المقروءة يختلف عن تأثير الصورة المجسدة. كان العرض يحتاج بلا شك إلى صورة مسرحية نهائية تعكس التأثير الشعوري والفكري المطلوب، أي إلى نهاية يظل معها الانفعال بالموقف والخوف من معاودة الهجوم والأمل في عودة الابن المسافر، بل والاحتماء بالجمهور ذاته – والذي حققه جزئيًّا نزول الممثل إلى الصالة وكأنه يريد أن ينهض الجمهور معه لحماية البيت والزوجة – ولكن للأسف لم يتحقق كل هذا رغم قوة الانفعال والتركيز الضوئي والحركي على الممثل وتهدُّج صوته وتصاعد مشاعره، هناك ما كان يجب أن يضاف بصريًّا أو حركيًّا ودراميًّا أيضًا إلى كل هذا؛ كي تصل الذروة إلى أقصى طاقتها الانفعالية في التوهج والبقاء مضوية داخل الجمهور بعد المغادرة.