أختلف عن الأخريات اللاتي يتقاضين أجرا عن هذه المهنة. فإنهن يأخذن المقابل لأنها بالنسبة لهن حرفة عمل بمواعيد يقررنها أو يقررها الزبون أما أنا فلا . أنا أعشق أن أكون حبيبة و محبوبة و أجمل ما في العشق المباغتة أن يهبط عليك دون سابق إنذار. الجهد الوحيد الذي أبذله هو أن أفتح المجال لتسلل الفرص. أتواجد في الأمكنة التي تخييم عليها أجواء الرومانسية كالمنتجعات الفاخرة و النوادي الليلية الراقية أو أن ألف أنا نفسي بهالة من السحر بعطوري النفاذة و ألواني الهادئة. في كثير من الأحيان أعود كما ذهبت و لا أبتأس. فعندي يقين أن الحياة جعبة مثل جوال بابا نويل الذي يمتلئ بالهدايا المفرحة وهمي لكنه يتحقق في وقت محتوم يحل فيه ليبهج الأيام بعطايا ملونة. أنا من أنصار حدوث الشرارة الأولى المتبادلة التي تبرق في العينين و تسرق الأنفاس في اللحظة ذاتها. فالإعجاب من طرف واحد غالبا ما ينتهي إلى عدم، لأن الطرف الُمعجب به لا يعشق العاشق لنفسه، بل يحب إعجابه به، و أنا أهوى أن أكون معشوقة لذاتي. بمجرد اندلاع الشرر الجميل تتولى الأمور نفسها بنفسها و تتوالى الأحداث تلقائيا. العشق لعبة وفن ومهارة، ومن يدعي أنه راحة للنفس تؤدي إلى أن يترك المرء روحه على سجيتها..سيصل إلى نقطة النهاية سريعا. و النهاية التي أقصدها هي وضع حد للإحساس بالمتعة . ليست المتعة الجسدية فحسب، بل المتعة الذهنية التي تؤدي إليها. مثل لعبة الشطرنج التي كلما زادت مهارة الطرفين الذهنية، كلما امتد الدور واشتعلت لديهما الرغبة في التحدي. أما بانتهاء الدور سيفرح الفائز لوهلة وسيحزن المهزوم لبرهة و يمضي كل إلى سبيله في طريق خال من الإثارة. لا أظن انني أدمن لعبة العشق كرد فعل عكسي لسلوك والدي الذي لم يكن في طفولتي سوى مواعظ مرسلة من بلده البعيد عن طريق المكالمات الهاتفية و البريد المسجل بعلم الوصول و شرائط كاسيت تحمل نبراته المحايدة و هو يسرد أحواله و يخطرنا بما ستف لنا من أموال و يشفعه بدعاء موجه الى الله بأن يحرسنا بقدرته و رحمته، و توصيات موجهة الى أمي بأنها الراعية في غيابه و يذكرها بأن كل راع مسئول عن رعيته، فتبدأ و تنهي يومها بتنفيذ التعليمات مثل راهبة وهبت نفسها لإرضاء الرب، فنخرج من يومنا أنا وأخواتي البنات برصيد هائل من المعرفة بالأصول و العيب وغير اللائق حتى نتجنبه. ملحوظة: لم يكن أبي يرسل قبلات أو مشاعر حميمة، كما لم يوصي أمي بتوصيلها لنا، فكانت من فرط أمانتها لا تفعل ما لا يوصيها به. لكن دعونا لا ندخل في مهاترات انني أعشق العشق لأنني مثلا حرمت من الحب في طفولتي، فهذا تبرير ساذج سيصل إليه أي طبيب نفسي مبتدئ و حينئذ سأرد عليه : و ما قولك في أخواتي الثلاث اللاتي يرتدين الخمار و تزوجت اثنتان منهما على طريقة العرض و الطلب و يعشن راضيات حامدات لا يشعرن بأي نقص؟؟ هذا تكوين شخصي خاص بي لا صلة له بالعقد النفسية. فأنا مثل من يولد بصوت جميل أو كمن يجد نفسه يشكل رسومات أو يخترع نغمات. يقولون أن لتلك المواهب أصل جيني. هل يمكن أن تحمل جيناتي كروموزومات داعرة؟ ربما كانت تيتة الحاجة في صباها.. مثلا... و قد يكون هذا ما أحدث عقدة نفسية لأبي و جعله متشددا هكذا ! لا..لا أريد أن أنجرف إلى الحلقة المفرغة الخاصة بالعقد النفسية التي تربك الأمور و تفسد جمالها و دعوني أستمتع بالحالات. إمرأة و رجل- أصل الوجود- يتلاقيان ليتعارفا. يدوران كالأفلاك في المجال المغناطيسي لبعضهما البعض. يزددن تحيرا من فرط المحبة. يصلان الى مقام العشق. تضطرم في قلوبهما نار تحملهما الى ذروة حتما يليها سكون. تحدث أشياء خارجية أو باطنية تفسد بعض الأمور..تطفئ بريق العلاقة. على يقيني و تفاؤلي لا أزال. يرحل “س” و يحل “ص” و هكذا دواليك. أنا لست بعاهرة كلاسيكية، لا من وجهة نظري ولا من وجهة نظر من أرافقهم. فالعشق شرط أساسي لا أتخلى عنه أبدا، وهم لا يعتبرونني مجرد محطة لليلة واحدة، فمنهم من عرض عليّ زواجا عرفيا، كما ركع أحدهم على ركبتيه و قدم لي خاتم زواج على الطريقة الغربية. أما أقلهم التزاما فهم من منحوني مفاتيح شققهم السرية وألحوا عليّ في أن أرصص ملابسي بصفة دائمة في دواليبها الخاوية. ” لماذا يعشق الرجال العاهرات؟ ” سؤال وضع كعنوان لكتاب حقق أعلى المبيعات يمتدح الصفات التي تجذب الرجال وينصح النساء البائسات أن يصبحن مثلي. فأنا لا أشبه زوجاتهم اللاتي يطاردنهم بالمكالمات الهاتفية على مدار اليوم ، ويقابلنهم بلائحة من الطلبات والشكاوى ، ويسألنهم اهتماما ورعاية كأطفال لم يبلغن سن الفطام. فلدي دوما ما يشغلنى و يوفر لعشاقي تلك المساحة التي يطلبها الرجال من النساء و لا يمنحنها لهم أبدا- فيهرولون إليّ متلهفين على أن يعطونني مفاتيح حريتهم لأنهم يدركون تماما انني لن أسلبهم إياها. فلنستبدل كلمة “عاهرة” بكلمة “غانية” لأن الأولى ثقيلة و فجة، أما الثانية فتصفني تماما : الغانية هي من استغنت بحسنها عن الزينة. عندما أتوقف طويلا أمام مرآتي في أوضاع متعددة، يأسرني هذا الحُسن و كأنه ليس لي و يحضرني هاتف بأن تلك الروعة لابد وأن توزع على أكثر من عين وتجلب السعادة على أكثر من شخص. قد يظن من يعرف رأيي هذا انني بفاجرة وهذا خطأ. فالفاجر هو من يتباهى بنقائصه ويعرض فعلاته المشينة بشكل عمومى. فأنا أقوم بما أقوم به فى سرية تصل الى حد التقديس. أدرك أن هوايتى نقيصة ابتليت بها- فلا تغادر عقلى تلك الكلمات “اذا ابتليتم فاستتروا”. فلست معجبة بمن يمارسون الفسق بشكل جماعى- فلم أشته أن أحترف الرقص الشرقى مثلا وتلتهم العيون الغريبة ما أنكشف من لحمى- كما لم أشارك يوما فى طقس للسُكر و العربدة. أتحدث عن الفضائل؟ نعم و لم لا؟ أنفق فى الخير وأعطف على الفقراء ولا أطيق رؤية مظلوم الا ونصرته بل وأحتفظ بجوار فراشى بالمصحف الذى كان يجاور فراش والدىّ رحمهما الله. ربما يكون للأمر صلة بالحنان. فلدى فائض من الحنان لا أدرى من أين أتيت به وقد يكون هو العنصر الجاذب الذى يبقيهم الى جوارى لشهور. وقد يكون الذكاء، فالرجال يقولون أن لمعة العينين وخفة الروح تخلب لب أعتى الرجال. وأنا من النوع الذى يعرف ما يريد وتلازمنى صفة الأمانة مع النفس حتى وإن واجهت المتاعب والآلام. فلو لم ينقذ الله زوجى من أوجاع مرضه اللعين ويختاره الى جواره لكنت قد طلبت الطلاق بعد شفائه ,لأننى أدركت أنه لم يعد لدى فائض من نفاق بعد ثلاث سنوات من حياة روتينية بلا حب. كما أننى منذ الصغر لم أحلم بأن أكون زوجة يوما ما- بل جارية في قصر منيف- في العصر العباسي مثلا- يعشقني الأمير ويدخل جناحه ناطقا بإسمي متلهفا إلى رؤيتي و سماع صوتي المعسول وأنا أتغنى بأجمل الألحان التي أؤلفها وروائع القصائد التي أنظمها ، ثم أنهض بعد أن أضع العود الذي أعزف عليه بجوار سيدي وأميري و أتلوى بحركات منظمة على موسيقى الموشح و أستلقي بجسدي على طرف النافورة الفسيفساء التي تتوسط البهو الكبير، وأرفع يداي بحركات أفعوانية تزركشها شخللة الجلاجل الذهبية المدلاة من الأساور التي أتحلى بها و تمنحني حسنا فوق حُسن وتزيد سيدي زهوا بي أمام ضيوفه الأمراء الذين يعرضون آلاف الدينارات لشرائي فيأبى أن أكون لسواه، فتشتعل الغيرة في قلب زوجاته وتدبر لي الجاريات الأخريات المكائد من خلف مشربياتهن وهن يتفرجن على المشهد في حسرة. هل شطحت بخيالي بعيدا؟ و ما الضرر في ذلك ؟ فلقد قرأت أبياتا في قصيدة تقول : من لا وهم له لا حقيقة له ومن جار على وهمه جارت عليه حقيقته نعم إن لم أغص في أوهامي ستجور عليّ حقيقتي وتبتلعني الحسرة. حسرة امرأة تكذب على نفسها ليل نهار. أنا لست بعاهرة أو غانية أو حتى هاوية عشق. فأنا لست سوى الأخت الثالثة للبنتين اللاتي تزوجتا على طريقة العرض والطلب منذ زمن بعيد وتعيشا راضيات حامدات لا تشعران بأي نقص لأنهما انتقلتا للعيش في بيوتهما. أما أنا فقد كنت الملاك الذي يرفرف بجناحيه الرحيمين فوق فراش مرض أبي بعد أن عاد الينا بأوجاعه، ليرحل عنه و يتركه لأمي التي ظلت تردد وصاياه كلما مددت يدي لألقمها جرعة دواء أو أقلبها ذات اليمين و ذات اليسار حتى لا تنال منها قرح الفراش و التي طالتها رغما عنا. أذهب إلى عملي بالمكتبة العامة كل صباح، أعيد ترصيص الكتب و أفهرسها فأملأ النهار حتى منتصفه، و أشارك أحيانا في تنظيم الندوات و الاحتفاليات لأشغل اليوم عن آخره. أهرب بداخل انشغالي بتفاصيله وحكايات وهموم الزميلات. نضحك كثيرا على نوادرنا ونقضي أوقاتا سعيدة في رحلات اليوم الواحد ونقد الأفلام التي نحضرها بانتظام في سينما الفندق المجاور للعمل والتي تلتهم معظم أموالنا، إلا أنه يتحتم عليّ أن أعود كل مساء لأقابل مرآتي و أنا أنتزع برفق الدبابيس التي أرشقها في طرحتي حتى تصمد معي طوال اليوم، فيخطف عيني خطا جديدا أضيف إلى الخطوط الرفيعة التي نحتت على خريطة وجهي وتزيد على ما أتفُق عليه من تجاعيد تناسب سنوات عمري الأربعين. من قال إن المرآة لا تكذب؟ فمرآتي كاذبة وتكيل بعدة مكاييل، فلماذا لا تلتقط هذا الفيض من الحنان الذي يغمرني و يستوعب هموم زميلاتي ومشكلات أخواتي؟ لماذا لا تصلها نبرات صوتي الذي ينضح عذوبة ودفئا يكفي لإشاعة الأمان في نفوس قوم بأكملهم، ويفيض عن طاقة جسدي الذي تتجاهل تلك المرآة اشتياقه لنيل حظا أوفر من التدليل ولمسات الحبيب و صوت ذكوري عميق يلفني بكلمات الغزل و أفعال العشق؟؟ حاولت مرارا أن أتوقف عن عادة تخليص جسدي من ردائي الطويل بعيدا عن المرآة، إلا أنني أتلذذ أمامها بفك كل القيود من أزرار و دبابيس و مشابك و متعة مشاهدة الثوب من خلالها و هو يطير خلفي ليستقر متبعثرا على الأرض أو على الفراش. ثم تجئ اللحظة التي تستكثر عليّ فيها ثوان المتع حين تواجهني بما تراه فقط من هذا الكم من الكتل اللحمية و الثنيات العارية التي تراكمت في ثقة على مدار سنوات العمر، لتسجنني في هذا الجسد الذي يطمس شفافية روحي ولا أجد سبيلا للتحليق خارجه سوى بإطلاق سراح صورا مشتهاة و خيالات تمنحها لي حكايا و تجارب عاشها آخرون لم يسجنوا بداخل فراغ وحدة أو كتل من شحم!!