فقدت أغلى ما تملك الأم، مات ابنها شابًا يافعًا، إلا أن ملامحها اكتست بالرضا بما قدر لها الله، تبتسم ثقة في عدل المانح للأبناء، فهي قانعة بأن لله ما أعطى وله سبحانه ما أخذ.. هكذا تقول والدة الشهيد «أحمد صالح» بهدوء نفس راضية.. ابنها الراحل «أحمد صالح» أحد ضحايا أحداث «محمد محمود»، اقتنصته رصاصات الغدر في اليوم الذي تسلم فيه خطاب مشروع التخرج في الجامعة. «البديل» التقت مع الأم سامية إبراهيم، لتروي تفاصيل الساعات الأخيرة في حياة فقيدها.. كلمينا عن الشهيد أحمد صالح؟ *** كان طالبا في السنة الأخيرة بأكاديمية "فيوتشر"، يدرس نظم ومعلومات، وعندما نال الشهادة كان لديه 21 عاما وعندها أيضًا استشهد، كان أحمد الابن الثالث بين أولادي، حيث يسبقه محمد – يعمل محاميا، وإيمان – محاسبة، ثم أحمد، والأصغر كريم – في السنة الرابعة بكلية التجارة. تتأمل الأم صورة ابنها الراحل قبل أن تكمل: كنت أشعر أن ابني مزدوج الشخصية، فهو في المنزل شخصية هادئة الطباع، يبعث الروح والبهجة والنشاط داخل المنزل، أية مهمة صعبة كان يقوم بها بكل رضا، فقد كان طفلا كبيرا بريئًا، لا يشاهد سوي الكرتون في التليفزيون، وفوجئت بعد ذلك بأنه يحمل من الوعي والحماس ما جعله ينزل التحرير ويصنع الثورة مع زملائه. كيف كانت علاقته بك وبأخوته؟ *** أحمد كان حاجة كبيرة قوي، كان الحركة ودلوقتي السكون القاتل في البيت، ابني كان دائم الضحك والهزار معي، لم يتسبب يوما في مشكلة تغضبني منه، أفتقد حنانه وطيبته، ورحمته بالضعفاء، في بعض الأوقات كنت أجد إيصالات تبرعه بالدم في الجامعة، وعندما أساله كان يرد ضاحكا: «عشان خاطر علبة العصير»، حتي لا يضيع ثواب تبرعه في الحديث عنه، لم يكن أنانيا مع أخوته، إذا أعجب أحدهم قميصا يمتلكه، كان يستبدله معهم بسماحة وحب. هل كان ينتمي لحزب سياسي؟ *** لم تكن له أي انتماءات سياسية، أحمد شارك كأي شاب عادي عندما اندلعت الثورة، وكنا أسرة كأغلب الأسر المصرية، مع بداية الأحداث لم نكن نعلم معني الثورة، لكنه كان دائما لديه مبادرة المشاركة، سواء بالنزول في ميدان التحرير أو اللجان الشعبية مع الفراغ الأمني، بل كان يساعد جميع الجيران، وكان يقضي جميع الطلبات حتي لا يخرج أحد من المنزل، لم أكن أعرف مقدار الشعبية والمحبة التي يحظي بهم بين أهالي الشارع والمنطقة إلا بعد وفاته من خلال مؤازرة الأهالي لنا. كان والده يحذره باستمرار ويوصيه أن ينتبه ويحرص على نفسه، فكانت إجابته دائما: «يا بابا العمر واحد والرب واحد». كيف شارك في أحداث محمد محمود؟ *** كان ذلك في مليونية يوم الجمعة تحت شعار «المطلب الواحد» التي دعا لها الشيخ حازم أبو اسماعيل، وشارك أحمد في التحضير للمنصة يوم الخميس، ثم عاد يوم الجمعة في الثامنة مساء ولم يشارك في المليونية، ولم أعرف حتي الآن ما السبب. ظل طوال اليوم صامتا، وكأنها لحظة الوداع للمنزل، عندما أتذكر يومها وهو يتحرك بين الحجرات والبلكونة، ثم عندما جاء اليوم التالي 19 نوفمبر، وعندما بثت الشاشات الاشتباكات في الميدان، وبمجرد ذهاب والده إلى العمل، ارتدي ملابسه وقرر النزول، صرخت فيه كثيرا كي أمنعه، لكنه رد علي قائلا: «مش هينفع يا ماما أقعد في البيت والناس بتنضرب في التحرير كده». لم أكن أدرك أن الموقف سوف يتطور بهذا السوء وأن ابني يمتلك هذه الشجاعة والرغبة في الشهادة كأصدقائه. كيف مر يوم السبت 19 نوفمبر علي الأسرة؟ *** كل الأيام التي ذهب فيها أحمد إلى ميدان التحرير كان لا يرد علي تليفونه، لكنه في هذا اليوم كان متواصلا مع والده وأخوه باستمرار، يطمئنهم عليه بين الحين والآخر، حتي الرابعة فجرا، إلى أن طلبت من والده أن ينهره ويطلب منه العودة إلى المنزل، وجاء رد أحمد وقتها: «يا بابا اطمن أنا ما باعملش حاجة غلط، أنا بانقذ المصابين»، لكن بمجرد مشاهدتنا لنزول الشرطة العسكرية عند قصر عابدين، وما فعلته بالشباب مع الداخلية، وإلقائهم في الزبالة، نصحه أبوه بالعودة إلى المنزل بعيدا عن قصر عابدين حتي لا يتم القبض عليه ويأتي عن طريق باب اللوق. لم يعد أحمد إلا في الثانية عشرة ظهر الأحد، وبمجرد أن فتحت له باب الشقة وجدت أمامي شابا كأنه خرج لتوه من حفرة مليئة بالتراب، عيونه أشبه بكاسات الدم من التهاب القنابل المسيلة للدموع، ويمسك في يده بخاخة الخل وكيس القطن. ماذا قال لك بعد عودته إلى المنزل؟ *** جلس علي الكرسي أمام التليفزيون وقال لي: «عارفة يا ماما، كل اللي بتشوفيه في التليفزيون ده كدب»، فنظرت له وكان لدي شعور قوي بالبكاء، لكني لم أكن أعلم سبب هذا الإحساس، سأله والده قائلا: الحقيقة إيه يا أحمد؟ فرد على والده لأول مرة في حياته بحدة قائلا: «انزل انت بنفسك يا بابا شوف الحقيقة»، لكن المفارقة المبكية أن يوم نزول أحمد واستشهاده كان نفس اليوم الذي جاء فيه البوسطجي بخطاب الاستدعاء لتنفيذ مشروع التخرج بالكلية. هل علم بأمر ذلك الخطاب؟ *** اغرورقت عيناها بالدموع وقالت: قبل أن ينام أحمد بعد عناء يوم السبت، دخلت عليه الغرفة، فبدا وجهه جميلا كأنه الوداع، قلت له علي جواب مشروع التخرج وطالبته بأن يجتهد حتي ينتهي منه حتي ينفذ له والده المشروع الذي يريده بعد التخرج، فرد قائلا: «هروح يوم الأربعاء والخميس»، لكني طلبت منه أن يذهب مبكرا، فقال لي بهدوء: «هروح يوم الاثنين»، فنظرت له وتوجهت بالدعاء قائلة: روح يا ابني ربنا يريح قلبك عند الرب وعند العبد. هل كان لديكِ شعور بالقلق أو الخوف عليه في ذلك اليوم؟ *** اختلطت ابتسامتها بدموعها قائلة: قبل أن أخرج من حجرته، وجدت شيئا غريبا جعلني أستمر في الحديث معه والتأمل فيه وقلت له: كل مرة بتصيب معايا يا أحمد، والمرة دي لو خابت معايا مش عارفة إيه اللي هيحصل! فرد قائلا: «انتي عايزاه جنة وإلا نار؟» فقلت له: حد يعوز النار يا أحمد؟ فقال لي: «يبقي جنة يا ماما»، وقبل الخروج من الغرفة أبلغني ان موبايله ضاع في الاشتباكات!. لماذا قلت له هذه الجملة ؟ *** كان لدي خوف شديد أن أفقده يوما ما، حتي أنني كنت أتأمل أحد البراويز القديمة وكان يضم صورة لولدين وبنت، وكنت أفكر أنني لدي ثلاثة أولاد وبنت، فهل سيأتي اليوم وتصبح هذه اللوحة حقيقة علي أرض الواقع، ولا يبقى لي إلا ولدين وبنت كهذا البرواز! وقد كان بالفعل، حتي أنني عرفت بعد ذلك أن والده بعد نزوله إلى العمل صعد مرة أخري عدة أدوار ودخل عليه الغرفة وكان نائما وقال له: «ربنا يهديك يا ابني».. وكأنها كانت نظرة الوداع.