"كنت صبيا حين وصلنا زائغي الأعين، حفاة الأقدام، إلى عين الحلوة، كنت صبيا وسمعت الكبار يتحدثون.. الدول العربية.. الإنجليز.. المؤامرة.. كما سمعت في ليالي المخيم المظلمة شهقات بكاء مكتوم.. ورأيت من دنت لحظته بموت وهو ينطلق إلى الأفق في اتجاه الوطن المسروق".. في هذا اليوم المشئوم من عام النكبة الفلسطينية 1948، خرج الرسام المناضل والثائر ناجي العلي من قريته الشجرة، الواقعة بين طبريا والناصرة، متوجها مع أهله إلى مخيم عين الحلوة بجنوب لبنان، وفي ذلك الوقت لم يكن قد تجاوز العشر سنوات، ولكنه كان يحمل موهبة وإحساس فنان، فلم يستطع أن يرى معاناة أهله دون أن يعبر عنها، فقد التقط الحزن من عيونهم، وشعر برغبة جارفة في أن يرسمه خطوطا عميقة على جدران المخيم – حيثما وجد مساحة شاغرة، حفرا أو بالطباشير. ورغم مرور 26 عاما على رحيله، إلا أن خطوطه لا تزال حية معبرة عن نبض القضية الفلسطينية، بل إن رسوماته التي وصلت عددها إلى أربعين ألف رسمة ما زالت تُنشر، فكل رسوماته كانت ثورة حقيقية ضد الكيان الصهيوني علي أرض العروبة. لم يفهم ناجي العلي لغة المناورات السياسية، ولم يعرف لفلسطين سوى طريق واحد هو البندقية، وكذلك كانت رسوماته تقذف رصاصاتها ضد العدو الصهيوني، فكان يقول صديقه شاعر فلسطين محمود درويش: "لم يكن من السهل أن تناقش ناجي العلي الذي يقول: (لا أفهم هذه المناورات.. لا أفهم السياسة.. لفلسطين طريق واحد وحيد هو البندقية)", وكان يرى أيضا أن مفاوضات السلام خدعة كبيرة، فكان يقول: "لقد كنت قاسيا على الحمامة لأنها ترمز للسلام.. والمعروف لدى كل القوى ماذا تعنيه الحمامة، إني أراها أحيانا ضمن معناها أنها غراب البين الحائم فوق رؤوسنا، فالعالم أحب السلام وغصن الزيتون، لكن هذا العالم تجاهل حقنا في فلسطين، لقد كان ضمير العالم ميتا، والسلام الذي يطالبوننا به هو على حسابنا، لذا وصلت بي القناعة إلى عدم الشعور ببراءة الحمامة". ابتدع ناجي العلي الشخصية الكاريكاتورية "حنظلة"، وكانت بمثابة الأيقونة التي تمثل الانهزام والضعف في الأنظمة العربية وتخاذل العرب وحكامهم تجاه القضية الفلسطينية، ففي كل لوحاته نجد حنظله ابن العشر سنوات يعطي ظهره لنا لغضبه من العرب بعد كامب ديفيد وتطبيق سياسة التطبيع، وعندما سئل ناجي العلي "ومتى سنرى وجه حنظله؟" أجاب: "عندما تصبح الكرامة العربية غير مهددة، وعندما يسترد الإنسان العربي حريته وإنسانيته". اغتيل ناجي العلي في أحدى شوارع لندن على يد مجهول يوم 29 أغسطس 1987، وقد أثير الكثير من الجدل حول الجهات المدبرة لعملية الاغتيال، حيث يتهم البعض الموساد الإسرائيلي، والبعض الآخر يتهم منظمة التحرير الفلسطينية، بسبب انتقاداته اللاذعة التي وجهها ضد قادة المنظمة. وعن ناجي العلي يتحدث رسام الكاريكاتير سمير عبد الغني قائلا: "افتقدنا المناضل والساخط دائما ناجي العلي رغم وجود حنظلة بيننا حتي اليوم، رسوماته رغم بساطتها حملت جرح الأرض، وكانت شديدة التعبير عن معاناة الشعب الفلسطيني وضعف الأنظمة العربية، أتذكر له الكثير من الرسومات التي تعبر عن زيف المفاهيم التي تروج لها الولاياتالمتحدةالأمريكية مثل الحرية والديمقراطية، ففي صورة شهيرة له رسم ناجي العلي شخص يكتب باللغة الصينية عن الحرية، وآخر يقول إن مقاله أمس كان عن الديمقراطية، واليوم سيكتب وصيته". ويضيف عبد الغني: "ناجي العلي ريشة لن تموت، وحنظلة لا يزال شمسًا تنور العالم، ولكن المحزن أن كل المؤسسات الثقافية المصرية تجاهلت ذكرى رحيل هذا الرسام العبقري رغم احتفاء الغرب به". ويقول الرسام "عمرو سليم": إن الوقت الذي أطلق فيه الرصاص على ناجي العلي في شوارع لندن، كان أول شهادة إثبات بأن الكاريكاتير أداة إزعاج للخونة والعملاء أيا كانت انتماءاتهم ووجوههم الخادعة، وإثبات أنه فن قوي ومشاكس وغير قابل للترويض". ورغم الجدل الذي أثير حول الجهات المسئولة عن اغتيال ناجي العلي، إلا أن الشاعر عبد المنعم رمضان يقول: إن من قتل الرسام الراحل هم الزعماء الذين أضاعوا فلسطين، في إشارة منه إلى الخلاف بين ناجي العلي وقادة منظمة التحرير الفلسطينية، وأضاف رمضان: "دائما في الثورات هناك شخص غير قابل للتدجين، وهناك آخرون يبدأون ثوارًا ثم يتم ترويضهم ويتحولون من مدينة "لا" إلى مدينة "نعم"، ولكن ناجي العلي أصر على السكن في مدينة "لا" دائما".