بداية لا يجافي المنطق أن يكون للحاكم المستبد والفاسد المخلوع شبكة ضخمة من الشركاء في الفساد الفاجر هائل الضخامة، والذي ما زلنا لم نحط بكامل أبعاده بعد. وقد توقفت جهود السلطة الانتقالية في مكافحة الفساد والقصاص من المفسدين عند عائلة أس الفساد وبعض هوامش بطانته، وتعاملت مع المخلوع وعائلته وبطانته برفق بالغ ولم تأخذ التحقيقات معهم منحى جديا إلا بعد تمكينهم لفترة طويلة من توفيق أوضاعهم لإخفاء أغلب آثار جرائمهم، في ظل التمسك بالإجراءات البطيئة للقضاء الطبيعي والقوانين التي فصلها زبانية النظام الساقط لتعطيل اكتشاف جرائم الفساد والعقاب عليها. وحتى عندما ثبتت عليهم جرائم أطلق سراحهم، مثل إطلاق سراح “السيئة” الأولى بعد ثبوت تهمة التزوير في أوراق رسمية عليها في صفقة فساد ضخمة. بل بلغ التهاون حد تهريب رأس أفعي الفساد حسين سالم، ربيب الفاسد الأكبر المخلوع ومرشده على طريق الفساد، وبعض آخرين من رؤوس الفساد من البلاد بتيسير من بعض قادة الحكم في ظل السلطة الانتقالية مثل نائب رئيس المخلوع وآخر رئيس وزارة عيّنه، والاثنان ، حتى لا ننسى، من المؤسسة العسكرية، وما زالا محصنين من المساءلة وإن تراكمت القرائن على فسادهما، ولا غرابة. هذا بينما لم تتحرج السلطة الانتقالية من تكرار إرهاب المدنيين بتحويلهم لمحاكمات عسكرية شبه فورية لم تتوافر فيها ضمانات المحاكمة العادلة لمجرد إبداء الرأي أو التظاهر، وهما حقان مكفولان أصولا. ولم تتوان أجهزة القوات المسلحة عن ارتكاب انتهاكات جسيمة من دون وجه حق مثل التعامل بعنف مع المتظاهرين، والتردي لأساليب بربرية مثل فحص العذرية الهمجي للمتظاهرات، الذي أساء لسمعة مصر كلها في جميع أنحاء العالم، وأنكروه أولا ثم عادوا للاعتراف به لوسيلة إعلام أمريكية، مع إخفاء اسم المعترف وإن ذُكِر أنه لواء بالجيش، أبدى للفضيحة النكراء تبريرات ساذجة ومدانة هي الأخرى. ويدخل في النطاق نفسه تهديد أعضاء في المجلس العسكري لأصحاب الرأي بالمحاكمة “على الهواء”، واستدعاء اصحاب الرأي للقضاء العسكري لما صار يعرف بفنجان القهوة، وليس إلا ترهيبا مغلفا بغلالة رقيقة، وزاد الطين بلة تحويل وزارة العدل بعض قضاة للمساءلة بسبب اعتراضهم على مثول مدنيين أمام القضاء العسكري، ما يمثل في حد ذاته انتهاكا صارخا للإعلان الدستوري الذي أصدره المجلس الأعلى للقوات المسلحة نفسه. وقد دعانا هذا التباين الصارخ بين الإبطاء المقيت في مواجهة شبكة الفساد من ناحية والإسراع المتلهف في العقاب وانتهاك حقوق مواطنين أبرياء من ناحية أخرى، إلى الشكوى أكثر من مرة من ” العدالة الانتقالية العرجاء”، وصححني أحد القراء بأنها ليست عرجاء وإنما ” كسيحة”، وله الحق! وعودة إلى الشراكة في الفساد، نجد فيما رشح عن التحقيقات مع الطاغية المخلوع، كما نُقل لنا، أنه، في محاولة مستميتة للدفاع عن نفسه في فضيحة فساد عمولات توريد السلاح للقوات المسلحة لم يجرؤ على النفي وإنما برر جرائمه بأنه لم يستحدث جديدا فلم يرفع نسبة العمولة وإنما أبقي عليها عند حد 35% “كما كان يقتضي عبد الناصر والسادات”، وكأنه تقليد راسخ عند رؤساء جمهورية مصر ان يتقاضوا مثل ههذ العمولات الفاجرة حتى بمعايير جرائم الفساد العالمية، وبأنه كان على أي حال يتلقي تفويضا مطلقا من مجلس الشعب بأن يتولى أمر توريد السلاح. ويتعين لتأكيد هنا بداية، بأن تفويض مجلس الشعب لم يشمل قطعا تقاضيه للعمولات. ونرجو الا يلومنا أحد من السلطةالانتقالية على تسقط التسريبات من وسائل الإعلام، فلو كانت السلطة الانتقالية تتناول أمور البلاد بالشفافية المجلية للحقيقة، وهي حق الشعب غير المنكور، ما لجأنا لتشمم التسريبات في مناخ خنق حرية تداول المعلومات الذي يثير الريب بأن هناك لا بد مستفيدون من هذا التعتيم الكثيف الذي تبنته السلطة الانتقالية استمرارا لنهج الحكم التسلطي في حرمان الشعب من الحق في التوصل للمعلومات. وقد تردد في الأخبار مؤخرا أنه فُرض على أعضاء اللجنة الطبية التي شُكلّت لفحص الجلاد المخلوع تمهيدا لاتخاذ قرار بشأن سجنه ومكان محاكمته أن يُقسموا بعدم التصريح عن حالته، وقد بدا ذلك جليا في اتصال واحدة من المذيعات اللامعات بأحد أعضاء اللجنة من الأطباء المرموقين التي أصر فيها لفترة طويلة على عدم قول كلمة واحدة عن حالته الصحية، ما يتيح للسلطة أن تقول ما تشاء لتبرير أي قرار تتخذه. وقد يمكن صرف النظر جزئيا عن الجزء الأول من دفاع الفاسد المخلوع كونه دفاعا بالباطل متزيدا بالافتراء على اعتبار أن القاصي والداني لا يضع ذمة جمال عبد الناصر محل شك وأن الرجل لقي ربه فقيرا، بل مدينا. إلا أن القسم الثاني من الدفاع الفاجر صحيح لا ريب. فالجميع يعلم أن أعضاء مجلس الشعب عن حزب الحاكم المخلوع، وغالبيتهم الساحقة أنجحوا بالتزوير الفاجر من قبل المخلوع الفاسد وأدواته، وبعضهم مجرمين أصلا، أساسا من أجل تمرير مثل هذه الصفقات الحرام، قد أعطوا الجلاد الفاسد المخلوع مثل هذا التفويض المطلق بدعوى تمكين القوات المسلحة، من خلال قائدها الأعلى، من الدفاع عن البلد. والقول عندي أن كل أعضاء مجالس الشعب هؤلاء، وعلى رأسهم زعيمهم قائد أوركسترا الموافقة في مجالس الشعب السابقة والمزورة جميعها، شركاء في جريمة فساد عمولات السلاح ويتعين أن يقدموا للمحاكمة ولو كأدوات للجريمة، وإن لم يتلقوا قسما من عمولات السلاح ذاتها، وإن كنا لا نعلم ذلك يقينا الآن، ومن يعلم ماذا يمكن أن تنجلي عنه تحقيقات جادة وفعالة؟. كما أن الرأي عندي أن ما تلقاه هؤلاء المجرمين من أعضاء مجالس الشعب المزيفة من مزايا ضخمة كان يوازي في الواقع نصيبهم من عمولات السلاح وإن زاد المخلوع فسادا فوق فساد بمنحهم بعضها من أموال الشعب، وليس مما جنى من العمولات التي تصمه بحضيص السفالة. ومن هنا فإن التباطؤ في تحويل كل هؤلاء إلى صنف من العدالة الناجزة يستجدي سؤالين، أحدهما بالغ الخطورة. السؤال الأول هو من سيكون مسئولا أمام التاريخ عن إفلات أعضاء شبكة الفساد الفاجر من المساءلة الجادة؟ والإجابة القاطعة واضحة: ليس إلا السلطة الانتقالية، المجلس الأعلى للقوات المسلحة وحكومته. علّهم يفقهون، ويتصرفون بداع من المسئولية التاريخية. أما السؤال بالغ الخطورة والذي سيبقى من دون إجابة في هذا المقال على الأقل، فهو: هل يمكن تفسير هذا الرفق البالغ والتدليل لمجرم من أخطر من أضروا، هو وعائلته وبطانته، بمصالح البلد في التاريخ المعاصر، والتعتيم الشديد على مجريات التحقيق معهم، والتأجيل المستمر والطويل للحظة الحقيقة التي يمثل فيها الفاسد الأكبر أمام القضاء وتذاع محاكمته علانية، بحرص شركاء آخرين في الفساد الفاجر على ألا يتفوه الفاسد المخلوع بما يضر بأمنهم أوبمصالحهم الحالية أو المستقبلية؟ ما يستدعي تساؤلا فرعيا سيبقى هو الآخر بدون إجابة الآن. هل القصد من كل التأجيل والتعتيم على تحقيقات الفساد، خاصة مع الفاسد الأكبر، هو إخفاء أسرار فساد أشد فجرا مما اقترف الطاغية المخلوع عسى يقضي الله أمرا كان مفعولا ويستعيد وديعته أو يلقي الفاسد المخلوع مصير عبد الحكيم عامر، وربما يشيّع في جنازة عسكرية، وتدفن معه هكذا أسرار جبل الفساد الذي يراد له أن يظل مخفيا؟