قام د. محمد سعيد العمور - أستاذ بجامعة الأقصى - بعمل دراسة بعنوان "القدس فى الشرائع السماوية"، وترصد القدس من عدة جوانب مختلفة وليس من منظور دينى فقط، ومكانتها فى الديانات المختلفة، والعوامل التى جعلت كلا من المسلمين واليهود يتمسكون بها، وأهم التطورات التاريخية التى مرت بها القدس، بداية من فترة ما قبل الميلاد وسكانها الأصليين - اليبوسيين، إلى بوادر قيام الدولة الصهيونية، وإقامة أول حى صهيونى فى فلسطين، وماذا تعنى كلمة "صهيون"، وأهم الأسماء التى سميت بها المدينة. وفيما يلى نص البحث الذى نشرته مؤسسة القدس الدولية: يتفق علماء ما قبل التاريخ على أن بلاد الشام من أقدم المناطق التي سكنها الإنسان، فبعضهم يرى أن فلسطين أول منطقة عرفت بداية تاريخ الحياة البشرية، والبعض يرى أن بداية البشر كانت فى أماكن أخرى كالهند ومكة ومصر والصين، ولكن جميع العلماء متفقون على أن أغلب أنبياء الله ورسله نزلوا وعاشوا ودعوا إلى ربهم في القدس وأكنافها. ويقر علماء التاريخ البشري بأنه لم تحظ مدينة قط بما حظيت به القدس من أهمية لدى شعوب الأرض قاطبة، فهي مهبط الوحي، وموطن إبراهيم خليل الرحمن، ومقر الأنبياء، ومبعث عيسى كلمة الله التي ألقاها إلى مريم، وقد قال ابن عباس: "البيت المقدس بنته الأنبياء وسكنته الأنبياء، ما فيه موضع شبر إلا وقد صلى فيه نبي أو قام فيه ملك". وهيأولى القبلتين، وثالث الحرمين، استقبلها المسلمون زهاء عام ونصف بعد هجرة الرسول الكريم إلى المدينة، وخصها الله بإسراء رسوله وحبيبه المصطفى، فقال في كتابه العزيز: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ) (الإسراء:1)، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: مسجدي هذا، والمسجد الحرام، والمسجد الأقصى". ما جعلها محط أنظار أهل الديانات والغزاة، بلإنها دُمِّرت على يد غزاتها ثمانية عشر مرة، واحتُلَّت خمسا وعشرين مرة. ومن الثابت تاريخيًّا أنَّ اليبوسيين العرب هم أول من بنى المدينة في حوالي الألف الثالث ق. م.، وأطلقوا عليها اسم "يبوس"، واليبوسيون بطن من بطون العرب في الجزيرة العربية، هاجروا مع غيرهم من القبائل الكنعانية واستوطنوا ساحل البحر المتوسط، خاصة ما يعرف اليوم بفلسطين، وكانت القدس التاريخية هدفًا للهجرات العربية من قلب الجزيرة، ويرجع وجود الجنس العربي فيها - في رأي الباحثين الثقات - إلى عشرة آلاف سنة، فقد جاءإليها العموريون والكنعانيون واليبوسيون في الألف الرابع ق. م.، وأهم ملوك اليبوسيين على القدس "سالم اليبوسي" و"أدوني بازق" و"ملكي صادق"، فهذا الأخير هو أول من خطّطها وبناها وبنى فيها مركزًا للعبادة، ولأنَّه كان محبًّا للسلام سمَّاها "سالم"، وعرفت فيما بعد بالاسم الكنعاني "أور سالم"؛ أي مدينة السلام، كما ورد ذكرها في الكتابة الهيروغليفية المصرية والبابلية باسم "يروسليمو"، وحتى اليهود يعترفون في سفر يوشع ما يدحض هذه المزاعم: "أما اليبوسيون الساكنون في أورشليم فلم يقدر بنو يهوذا على طردهم، فسكن اليبوسيون مع بني يهوذا في أورشليم حتى اليوم". واليوم تعني يوم كتابة التوراة؛ أي بعد موت النبي موسى ويوشع بأجيال. وللمدينة مكانة عظيمة عند ساكنيها وما جاورها أو مر بها من أمم وممالك، والدليل على ذلك كثرة أسمائها وتعدد صفاتها، والحديث عن فضائلها، فمن أسمائهاالكثيرة التي أطلقت عليها "أور ساليم"؛ سماها بذلك الكنعانيون الذين هاجروا إليها في الألف الثالثة قبل الميلاد، وتعني مدينة السلام أو مدينة الإله ساليم، واشتقت من هذه التسمية كلمة "أورشليم" التي تنطق بالعبرية "يروشاليم"، ومعناها البيت المقدس، ومن أسمائها كذلك يبوس وإيلياء وكابتولينا وبيت المقدس والقدس والقدس الشريف. وذكرت القدس مئات المرات في كتب يهودية مقدسة، لكنها لم تذكر أبدا في التوراة، وتحديدا فيما يعرف بأسفار موسى الخمسة الأولى، التي تعتبر بمثابة كتب الوحي، والأكثر قبولا واعتمادا من اليهود، وهذا يعني أن القدس جاءت في الكتب الملحقة بالتوراة التي هي كتب تاريخ، وقد ورد ذكر القدس فيها حوالي680 مرة، ثم عرفت في العصر اليوناني باسم إيلياء ومعناه بيت الله. ومن أهم الأعمال التي قام بها الكنعانيون في القدس شق نفق لتأمين وصول المياه إلى داخل المدينة من نبع جيحون الذي يقع في وادي قدرون والذي يعرف اليوم بعين سلوان. ومن خلال تتبع تاريخ مدينة القدس المسطور يتبين أنه في عام3000 ق.م. هاجر العموريون العرب إلى فلسطين، فكانت أول حضارة وأول عمارة لهذه الأرض، وبعدها بأكثر من ألف سنة - أي في العام 1900 ق.م. - هاجر إبراهيم الخليل - عليه السلام - من أور إلى فلسطين، وهي أول علاقة بين أبناء إبراهيم وهذه الأرض المعمورة سلفا. وفي سنة 1785 ق.م. هاجر الهكسوس إلى القدس، وكذلكهاجر آل يعقوب إلى مصر نحو عام 1740 ق. م.، وقد خرج نبي الله موسى - عليه السلام - فارًّا بقومه ودينه من بطش فرعون مصر كما وردت في القرآن والتوراة وكتب التاريخ، وذلك عام1290ق.م.، ولم تستقر الأمور لأتباع الديانة الموسوية حتى عام 1003 ق.م.، حين اتخذ داود - عليه السلام - أورشليم عاصمة له، وخلفه ابنه سليمان - عليه السلام، لكن عام 722 ق.م. شهد سقوط إسرائيل على يد الملك سرجون الثاني الآشوري، وشهد عام 586 ق.م. سقوط مملكة يهودا على يد الملك نبوخذ نصر البابلي. وفي عام 536 ق.م. احتل كورش الأخميني بابل، وسمح لليهود بالنزوح إلى فلسطين بعد السبي البابلي، وبعد عامين - أي في عام 538 ق.م. - احتل الأخمينيون فلسطين، وقام كورش بتجديد هيكل سليمان وبناء أور شليم القدس من جديد. وسقطت القدس عام 332 ق.م. في يد الإسكندر المقدوني الذي استولى على بلاد الشام والشرق عموما، وقد حلت الفوضى بعد وفاته عام 322 ق.م.، وفي العام 62 ق.م. احتل الرومان المدينة ونصبوا هيرودوس الأدومي ملكًا على الجليل والقدس، وظل يحكمها حتى سنة 4م، وفيزمانه ولد النبي عيسى - عليه السلام - في بيت لحم. وقد حدثت أعمال شغب كبيرة عام 70 م في مدينة القدس، فحاصرها طيطوس الروماني، وحدث في المدينة النهب والحرق والقتل، وأحرق المعبد الذي بناه هيرودوس، وبقيت الأمور هادئة حتى عام135 م، إذ أثار اليهود الشغب مرة أخرى، إلا أن الإمبراطور الروماني هديريان نكل بهم ودمر المدينة وحرث موقعها، وحول القدس إلى مدينة وثنية، وسمح للمسيحيين بأن يقيموا فيها، على أن يكونوا من أصل اليهود، وسمى المدينة "الياكا بيتو لينا" مشتقة من أسرة هدريان المدعوة إليا، وفي عام324 م أصبحت فلسطين تحت الاحتلال البيزنطي، الذي استمر حتى614 م حيث احتل كسرى أبرويز فلسطين. وفي ليلة 27 من شهر رجب قبل الهجرة النبوية بسنة أُسرى الله برسوله - صلى الله عليه وسلم - من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، وفي شعبان سنة 2 ه صلّى الرسول- صلى الله عليه وسلم - أول صلاته باتجاه القدس، ثم حولت القبلة إلى الكعبة المشرفة في هذا التاريخ. وفي سنة 7 ه / 628 م، استطاع الإمبراطور البيزنطي هرقل أن يطرد الفرس من القدس، وفي عهد النبوة المشرفة، وتحديدًا في عام 8 ه/ 629 م وقعت معركة مؤتة، وتلتها معركة تبوك عام 9 ه/ 630 م، وفي عهد خليفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبو بكر الصديق 13 ه/ 634 موقعت معركة أجنادين وانتصر المسلمون فيها على الروم، ثم جاءت المعركة الفاصلة في عام 15 ه/ 636م، حيث وقعت معركة اليرموك وانتصر المسلمون فيها. وفي العام السابع عشر الهجري 638 م،دخل عمر بن الخطاب القدس وصالح أهلها،وعقد معهم العهد والميثاق المشهور في التاريخ والعهدة العمرية. وفي تاريخ بيت المقدس الإسلامي يسجل لنا التاريخ أنه في عام 40 ه/ 661م أخذ معاوية بن أبي سفيان البيعة في القدس، واختار مدينة دمشق عاصمة لخلافته، وفي العام 65 ه/ 684 م وقعت ثورة فلسطين بزعامة نائل الجذامي تأييدًا لعبد الله بن الزبير، وفي العام72 ه/ 691 م أخذ سليمان بن عبد الملك البيعة في القدس، وبنى في الرملة قصرًا له. أما علاقة ملوك دولة بني العباس ببيت المقدس فلم تقل هذه المدينة المقدسة حظوة عند العباسيين، رغم وجودها ببلاد الشام موطن دولة بني أمية التي أطاحوا بملكها في العام 132 ه، ويسجل التاريخ أن المهدي أحد ملوك بني العباس قد زار بيت المقدس عام 218 ه، وزارها كذلك الخليفة المأمون من بعده. وفي العام 264 هأصبحت بيت المقدس وما جاورها من بقاع جزءًا من الدولة الطولونية، بعد أن قام أحمد بن طولون بضم فلسطين إلى دولته في مصر، ثم آلت السيطرة على بيت المقدس للفاطميين عام 385 ه/ 968 م، وفي عام 417 ه وقعت معركة عسقلان، وانتصر حلف الأمراء العرب على الفاطميين، واستولى الوزير الفاطمي الأفضل بن بدر الجمالي على القدس عام 492 ه. عام 493 ه احتل الصليبيون القدس وارتكبوا مجازر دموية في ساحة المسجد الأقصى، ورفعوا الصليب على الصخرة المقدسة, واستمر الاحتلال الصليبي لبيت المقدس تسعين عامًا انتهى عام 583 ه/ 1187 م، حيث استردها صلاح الدين الأيوبيمن الصليبيين في أعقاب معركة حطين, وبعدها بثلاث سنوات فقط في العام 586 ه/1190 م، وقعت حملة ريتشارد قلب الأسد ملك إنكلترا، وفيليب الثاني ملك فرنسا - الحملة الصليبية الثالثة - واستوليا على فلسطين في معركة "أرسوف"، واستمر الوجود الصليبي حوالي إحدى وخمسون عاما، حيث استرد الأيوبيين القدس عام 637 ه/ 1239م، وبعدها بأربعة عشر عاماً استولى المماليك على فلسطين. وفي العام 659 ه/ 1260م وقعت معركة "عين جالوت"، التي انتهت باندحار المغول ونجاة البشرية والحضارة الإنسانية من بربرية المغول، أعقب ذلك قيام السلطان "الأشرف بن قلاوون" بإنهاء وجود مملكة بيت المقدس الصليبية، وذلك عام690ه/ 1291م. أما السلطان سليم الأول وبعد معركة مرج دابق الشهيرة، استولى على القدس عام 922 ه, ولم تخرج بيت المقدس من التاج العثماني حتى عام 1831م، حيث سقطت بأيدي "إبراهيم باشا المصري" الطامح في الاستقلال عن إسطنبول. ويسجل التاريخ أن أول حي يهودي أنشئ في القدس سميَ "حي مونتفيوري" نسبة إلى رجل يهودي استطاع شراء أرض فلسطينية بمساعدة السلطان العثماني عام 1854 م، وفي العام 1920م وضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني من أجل تقسيمها بين العرب واليهود وتحقيق الوعد المشئوم, وقد تحقق ذلك عام 1948م، حيث اغتصبت فلسطين وطرد العرب الفلسطينيون منها. وفي عام 1967م استكملت دولة "إسرائيل"سيطرتها على كل فلسطينوالقدس بعد حرب حزيران، وعادوا يطلقون عليها اسم "أورشليم"، وفي سنة 1980متم إعلان ضم القدس سياسيًّا إلى دولة الاحتلال تحت شعار توحيد العاصمة الأبدية لدولة "إسرائيل".