عندما نبحر في عالم الدكتور المفكر مصطفى محمود تتلاقى أمواج كثيرة من الفكر والأدب، والفلسفة والتصوف والعلم، فهو رجل شغل الناس بأفكاره وآرائه التي ظهرت من خلال مؤلفاته، والتي تتراوح بين القصة والرواية والمسرحية، والمؤلفات العلمية والفلسفية والاجتماعية والسياسية وأدب الرحلات، فضلاً عن آلاف المقالات بالجرائد والمجلات المختلفة، و400 حلقة من برنامجه التليفزيوني الشهير "العلم والإيمان". قال الشاعر الراحل "كامل الشناوي" عن الدكتور مصطفى محمود: إذا كان مصطفى محمود قد ألحد فهو يلحد على سجادة الصلاة. كان الدكتور مصطفى محمود يتصور أن العلم يمكن أن يجيب عن كل شيء، وعندما خاب ظنه مع العلم، أخذ يبحث في الأديان بدءًا من الديانات الأرضية مثل الزرادشتية والبوذية، ثم انتقل إلى الأديان السماوية، ولم يجد في النهاية سوى القرآن الكريم. هو مصطفى كمال محمود حسين آل محفوظ، من الأشراف، ينتهي نسبه إلى عليّ زين العابدين - ولد عام 1921م، وكان توءمًا لأخ توفي في نفس العام، وعاش مصطفى في مدينة طنطا في جوار مسجد "السيد البدوي" الشهير الذي يعد أحد مزارات الصوفية الشهيرة في مصر؛ ولعل هذا ما جعل التصوف يترك عليه مسحة امتدت معه طوال حياته. بدأ مصطفى محمود حياته متفوقًا في الدراسة، حتى ضربه مدرسٌ للغة العربية؛ فاكتأب ورفض الذهاب إلى المدرسة ثلاث سنوات، وما إن رحل ذلك المدرس عن مدرسته، حتى عاد مصطفى، وبدأت تظهر موهبته وتفوقه وحبه للعلم. وفي منزل والده أنشأ معملاً صغيرًا، أخذ يصنع فيه الصابون والمبيدات الحشرية؛ ليقتل بها الصراصير، ثم يقوم بتشريحها، وفيما بعد، حين التحق بكلية الطب، اشتهر ب "المشرحجي"؛ نظرًا لوقوفه طول اليوم أمام أجساد الموتى، طارحًا التساؤلات حول سر الحياة والموت وما بعدهما. حياة الدكتور مصطفى محمود: تخرج مصطفى محمود في كلية الطب متفوقًا، وعلى الرغم من احترافه الطب متخصصًا في جراحة المخ والأعصاب، فإنه كان نابغًا في الأدب منذ كان طالبًا، وكانت تنشر له القصص القصيرة في مجلة "روز اليوسف"، وعمل بها لفترة عقب تخرجه؛ مما دفعه لاحتراف الكتابة، وعندما أصدر الرئيس عبد الناصر قرارًا بمنع الجمع بين وظيفتين، كان مصطفى محمود وقتها يجمع بين عضوية نقابتي الأطباء والصحفيين؛ ولذا قرر الاستغناء عن عضوية نقابة الأطباء، وحرمان نفسه من ممارسة المهنة إلى الأبد، مفضلًا الانتماء إلى نقابة الصحفيين، والعمل كأديب ومفكر. الدكتور مصطفى محمود وبرنامج "العلم والإيمان": يروى مصطفى محمود أنه عندما عرض على التليفزيون مشروع برنامج "العلم والإيمان"، وافق التلفزيون راصدًا 30 جنيهًا للحلقة! وبذلك فشل المشروع منذ بدايته، إلا أن أحد رجال الأعمال علم بالموضوع، فأنتج البرنامج على نفقته الخاصة؛ ليصبح من أشهر البرامج التلفزيونية وأوسعها انتشارًا على الإطلاق، وما زال الجميع يذكرون سهرة الاثنين الساعة التاسعة ومقدمة الناى الحزينة في البرنامج وافتتاحية مصطفى محمود "أهلاً بيكم"، إلا أنه ككل الأشياء الجميلة كان لا بد له من نهاية، وللأسف هناك شخص ما أصدر قرارًا برفع البرنامج من خريطة البرامج التليفزيونية!! وقال ابنه أدهم مصطفى محمود بعد ذلك إن قرار وقف البرنامج صدر من الرئاسة المصرية إلى وزير الإعلام آنذاك صفوت الشريف بضغوط صهيونية. الدكتور مصطفى محمود ومعارك فكرية: دخل مصطفى محمود في حياته عدة معارك، ووجهت إليه عدة اتهامات، أهمها: - أن مواقفه السياسية متضاربة، تصل إلى حد التناقض في بعض المواقف، إلا أنه لا يرى ذلك، ويؤكد أنه ليس في موضع اتهام، وأنّ اعترافه بأنه كان على غير صواب في بعض مراحل حياته هو ضرب من ضروب الشجاعة والقدرة على نقد الذات، وهذا شيء يفتقر إليه الكثيرون ممن يصابون بالجحود والغرور، مما يصل بهم إلى عدم القدرة على مواجهة أنفسهم والاعتراف بأخطائهم. - اتهامه بالكُفر في نهاية الستينيات بعد سلسلة من المقالات، وصدور كتابه "الله والإنسان" الذي تمت مصادرته وتقديمه بعدها للمحاكمة التي طلبها الرئيس جمال عبد الناصر بنفسه، بناءً على تصريح الأزهر، باعتبارها قضية كفر، وقد اكتفت لجنة المحاكمة وقتها بمصادرة الكتاب دون حيثيات، وإن كان الأمر قد انعكس في عهد الرئيس أنور السادات، فقد أبلغه إعجابه بالكتاب، وطلب منه طبعه مرة أخرى، ولكنه استبدل به كتاب "حوار مع صديقي الملحد"؛ لتتوطد بعده علاقته بالرئيس السادات وتدوم حتى وفاة الرئيس. - وجود حارس له، حيث اشتهر الدكتور مصطفى محمود بهجومه المتواصل على الصهيونية، ورأيه بأن اليهود وراء هذه الشبكة الأخطبوطية للفساد والإفساد في العالم كله؛ مما تسبب في لزوم وجود حارس على باب منزله منذ سنوات، بتكليف من وزارة الداخلية، لحراسته بعد التهديدات التي تلقاها، أو لعزله عن الحياة العامة كما رأى البعض! - نشر في مقالاته أفكارًا كثيرة كانت مثار جدل بين المثقفين، كدعوته إلى علم النفس القرآني، ويقصد به محاولة فهم النفس فهمًا جديدًا مؤسسًا على القرآن والسنة، وهي بمثابة محاولة للخروج بعلم نفس إسلامي جديد، ومثل تنبُّئه بسقوط الحضارة الغربية وانهيار الرأسمالية وتوابعها دون أن يطلق المسلمون رصاصة واحدة؛ بسبب الترف والتخمة وعبادة الشهوات والغرق في الملذات، كحضارات كثيرة ذكرها لنا التاريخ. الدكتور مصطفى محمود وأزمة كتاب الشفاعة: وتأتي الأزمة الشهيرة المعروفة باسم "أزمة كتاب الشفاعة" والتي وقعت عام 2000م؛ لتثير الكثير من الجدل حوله وحول أفكاره، وتتلخَّص فكرة الكتاب في أن الشفاعة التي سوف يشفع بها رسول الله عليه الصلاة والسلام لأمته لا يمكن أن تكون على الصورة التي نعتقدها نحن المسلمون، ويروِّج لها علماء وفقهاء الشريعة والحديث!! إذ الشفاعة بهذه الصورة تمثل دعوة صريحة للتواكل الممقوت شرعًا، وتدفع المسلمين إلى الركون إلى وهْم حصانة الشفاعة، التي ستتحقق لنا لمجرد الانتساب إلى رسول الله صلوات الله وسلامه عليه. وعليه ظهر الدكتور مصطفى محمود وكأنه مُنكَر لوجود الشفاعة من أساسه، وانفجرت الثورة في وجهه من جميع الاتجاهات، وكثرت الردود على كتابه، حتى تجاوزت (14) كتابًا أهمها كتاب الدكتور محمد فؤاد شاكر، أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة عين شمس، وقد رد على إنكار الشفاعة ردًّا مفحمًا وقاسيًا للغاية. وحاول الدكتور مصطفى محمود الصمود والانتصار لفكره، خاصة أنه لم يكن يقصد إساءة للدين الذي قضى جلّ عمره حاملًا راية الدفاع عنه، ودافع عن تصرفه بحرية الفكر والرد والاعتراف بالخطأ، إلا أن هذه الأزمة مع كبر سنه وضعف صحته أدت إلى اعتزاله الحياة الاجتماعية، فامتنع عن الكتابة إلا من مقالات بسيطة في مجلة الشباب، وجريدة الأخبار. ثم أصيب عام 2003م بجلطة في المخ أثرت على الحركة والكلام، ولكن مع العلاج تحسنت حالته الصحية، واستعاد القدرة على الحركة والنطق مرة أخرى، واستمر في عزلته مع رفيق عمرهِ الوحيد: "الكتاب". بعض أعمال الدكتور مصطفى محمود الأدبية: الإسلام في خندق - زيارة للجنة و النار - عظماء الدنيا وعظماء الآخرة - علم نفس قرآني جديد - الإسلام السياسي والمعركة القادمة - المؤامرة الكبرى - عالم الأسرار - على حافة الانتحار - الله والإنسان - أكل العيش - رائحة الدم - إبليس - لغز الموت - رحلتي من الشك إلى الإيمان - لغز الحياة - رجل تحت الصفر - القرآن محاولة لفهم عصري. قام بتأليف 89 كتابًا، يتراوح بين القصة والرواية الصغيرة إلى الكتب العلمية والفلسفية والاجتماعية والسياسية، إضافة إلى الفكر الديني والتصوف، ومرورًا بأدب الرحلات، ويتميز أسلوبه بالقوة والجاذبية والبساطة. وقدم 400 حلقة من برنامجه التليفزيوني الشهير "العلم والإيمان"، وقام الدكتور مصطفى محمود بإنشاء مسجد في القاهرة باسمه هو "مسجد مصطفى محمود" عام 1979م، ويتبع له "جمعية مسجد محمود" والتي تضم "مستشفى محمود" و"مركز محمود للعيون" ومراكز طبية أخرى، إضافة إلى مكتبة و متحف للجيولوجيا وآخر للأحياء المائية ومركز فلكي. توفى الدكتور مصطفى محمود في الساعة السابعة والنصف من صباح السبت 31 أكتوبر2009م بعد رحلة علاج استمرت عدة شهور عن عمر ناهز 88 عامًا، وقد تم تشييع الجنازة من مسجده بالمهندسين.