كثيرون ممن ينتمون لما يسمى بمشروع الإسلام السياسي أهاجهم مشهد الموجة الثانية للثورة، وانحياز القوات المسلحة له، لينتهي على ما انتهى عليه، فتجري أقلامهم مرغية مزبدة، بأحاديث هي أقرب للتشنجات العصبية، منها للكلام العاقل المتزن، أما استثناء القاعدة فكان رجل نجله ونحترمه، وإن خالفناه فيما ذهب إليه، هذا الرجل هو المستشار طارق البشري، الذي نشر مقالة في جريدة الشروق بتاريخ 10 يوليو 2013، تحت عنوان: "الصراع القائم الآن هو بين الديمقراطية والحكم والانقلاب العسكرى وليس بين الإخوان ومعارضيهم". يبدأ المستشار البشري مقاله بمقدمة خاطئة فيقول أن: "المسألة المثارة الآن ليست حكم الإخوان المسلمين وهل يبقون فى السلطة أو لا يبقون، إنما هى مسألة النظام الدستورى الديمقراطى الذى تفتقت عنه ثورة 25 يناير، وهل تحتفظ مصر بهذا النظام أم يقضى عليه وهو فى مهده ليحل محله انقلاب عسكرى يدخل مصر فى حكم استبدادى جديد لعشرات السنين المقبلة"!. وهنا نتساءل: عن أي نظام دستوري ديمقراطي يتحدث المستشار البشري؟!، هل يتسنى لجماعة كالإخوان المسلمين بعد كل الممارسات التي انتهجتها عبر الفترة الماضية أن تؤسس لمثل هذا النظام ؟!، لن نجهد أنفسنا في حشد الأدلة التي تبرهن على عدم صحة قول المستشار البشري، بل نستعين لدفع ما ذهب إليه بأرشيفه هو، ففى آخر انتخابات أجرتها الجماعة لمكتب إرشادها، قبل الموجة الأولى للثورة (والتي اكتملت فيها سيطرة التيار القطبي ليخرج عبد المنعم أبو الفتوح من مكتب الإرشاد وكذلك محمد حبيب) كان البشري هو من قال بفساد هذه الانتخابات، وكان رأيه حينها أنه إذا ما رغبنا في معرفة كيف يمكن للجماعة أن تدير الوطن إذا ما ارتقت السلطة، فعلينا أن نرقبها كيف تدير شؤونها من الداخل. فهل حقا يؤمن المستشار البشري أن جماعة الإخوان المسلمين في ضوء ما ذكره حينها وما رصده هو بعد توليهم الحكم من انتهاكات طالت أعلى سلطة قضائية في البلاد كانت جادة في تأسيس نظام دستوري ديمقراطي؟!. ليس هذه هي المقدمة الوحيدة الفاسدة التي استند إليها المستشار البشري، فالرجل يرفض مقارنة حراك الجماهير في 25 يناير بحراك 30 يونيو، باعتبار أن الأول كان يُجمع عليه الشعب، أما الثاني فلا، ونحن نتفق مع المستشار البشري في أن القياس فاسد، فحراك 25 يناير لا قبل له بأن يقارع 30 يونيو، وليسمح المفكر الذي لا يغادر مكتبه العاجي، للناشط الذي كان حاضرا الحدثين أن يسجل شهادته. أتذكر أنا وغيري عندما كنا نضطر أن نخرج من الميدان بالموجة الأولى للثورة، كان تصدنا موجة من الكراهية لنرتد فنحتمي بميداننا منها، مازلت أتذكر أيضا أن هناك قطاع هام من مصر لم يثر حينها، فأغلب محافظات الصعيد لم تدق أبوابها الثورة، أما ب 30 يونيو، فمن سار في شوارع قاهرة المعز حينذاك لطمته موجة فرح عارمة، لم تقتصر على العاصمة، بل امتدت بطول مصر وعرضها، في تجمع بشري هو الأضخم عبر التاريخ كما رصدته وسائل الإعلام المحلية والغربية ولم تستثن من المشاركة فيه محافظة واحدة. حالة فريدة؛ جماهير تثور في غير غضب، بل كانت بشاشة اليقين بزوال الكابوس الإخواني تشع من وجوهها. الأمر إذن لم يكن كما ذكره المستشار البشري في مقاله "جماهير تجمعت فى ميدان التحرير وما يماثله"، و"أخرى تجمعت فى ميدان رابعة العدوية وما يماثله"!. كنا نتوقع من القاضي البشري قبل أن يصدر حكمه، أن يُضمن أوراقه ما سطره هو عن الفكر القطبي الذي تنتمي إليه الطغمة الإخوانية التي حكمت البلاد عبر السنة الماضية، إذ يقول في في أحد كتبه أن "فكر البنا يزرع أرضا وينثر حبا ويسقى شجرا وينتشر مع الشمس والهواء، وفكر قطب يحفر خندقا ويبنى قلاعا ممتنعة عالية الأسوار، والفرق بينهما هو الفرق بين السلم والحرب"، هذه العبارة التي يحرص الباحثون في المسألة الإخوانية أن يزينوا بها كتاباتهم لخصت رأي البشري في حكامنا السابقين، وفسرت إلى حد بعيد الحالة التي كنا عليها في ظل حكمهم، هم حقا كانوا في حالة حرب مع مجتمعنا، تشي بذلك كل تصرفاتهم طوال الفترة الماضية التي لا مجال لتفصيلها هنا، وكان آخرها تصلبهم في مواجهة المطالب التي خرجت جموع الشعب "الجاهلي" بالتعبير القطبي تنادي بها!. مغالطة أخيرة نشير إليها في نهاية حديثنا ارتكبها المستشار البشري، حين قفز فوق مشهد 30 يونيو، متحدثا عن سنياريو الانتخابات البرلمانية، الذي كان "على الأبواب وفقا للدستور وإجراءات دستورية مؤسسية سليمة، ولكنه لم يتبع، وتحركت قيادات القوات المسلحة لتعلن وقف العمل بالدستور..". وكأن مشهد كهذا الذي رأيناه في 30 يونيو وما بعدها، لم يكن يُنبأ بحرب أهلية، في ظل تعنت الرئيس المعزول ومن وراءه ضد المطالب الشعبية بإجراء استفتاء، أو انتخابات رئاسية مبكرة!، بل مسارعةالجيش لحسمه كان أوجب من تدخله بالموجة الأولى للثورة، فلم يكن للمخلوع من أنصار سوى بضع مئات من البلطجية، الذين كان يسهل التعامل معهم، أما المعزول فله مئات الآلاف من الأنصار الذين جرى شحنهم والدفع بهم إلى الشارع للمنافحة عن الدولة الإسلامية التي يريد العلمانيون والفلول القضاء عليها!. ومع كل ما ذكرنا فنحن نطمئن المستشار البشري بأن الجماهير التي امتلأت بها ميادين مصر وشوارعها لم تكن تعمل لحساب هذا الطرف أو ذاك، بل نزولها كان فزعا من أولئك الذي ما حادثوهمبحديث إلا وكذبوا فيه، وما وعدوهم بوعد إلا وأخلفوه، وما خاصموا أحدا إلا وفجروا في خصومته، ليخونوا ما اؤتمنوا عليه، هذه الجماهير لن تسمح بأن يصبح الاستثناء قاعدة، يتمركز عليها الحكم الاستبدادي، أما 30 يونيو فقد دشن لموجة ثانية للثورة رغم أنفك النبيل. محمد السيد الطناوي [email protected]