اختار المصريون وعلى الجميع احترام نتيجة الاختيار في أولى خطوات دولة ديمقراطية نريد بناؤها جميعا- إلا قليلون- لكن هل اختار المصريون التعديلات الدستورية؟ في رأيي لا فكثير من المصريين اختاروا خوفا من مجموعة فزاعات وبناء على الكثير من الأكاذيب. إنها لعبة السياسة تطل على الجميع بوجهها الملوث لكننا لم نعتده بعد. في السابق كان العدو واحد توحدنا جميعنا ضده، والآن نبدأ مرحلة جديدة نتفرق فيها إلى تيارات وأحزاب وجماعات، وهذه هي السياسة التي ينبغي أن نضع لها ضوابط للعبة وندركها جيدا. فزاعات الجيش والإخوان والسلفيين والكفار والمسيحيين والعاريات والشواذ والنصارى، كلها خرجت تباعا، والآن علينا النظر بقدر من الحيادية للصورة من بعيد، بدأ الأمر بقرار المجلس الأعلى للقوات المسلحة بإجراء تعديلات دستورية تم اختيار لجنة لها خرجت ضدها بعض الاعتراضات التي لم يكن لها في الحقيقة قوة بين أعداد كبيرة من الناس، إلا أن الاعتراض تزايد بعد خروج التعديلات التي جاءت قاصرة وشابها غموض وتضارب مع مواد دستورية أخرى وكثير من المآخذ القانونية والدستورية التي أثارها قانونيون وفقهاء دستوريون. وقتها علت الاحتجاجات لكنها اتجهت للأسف في الاتجاه الخاطئ فبدلا من التركيز على انتقاد التعديلات وتقديم تصورات أكثر توافقا تعالت الانتقادات للجنة التي غلب عليها لانتماء الإخواني- وهو انتقاد صحيح في رأيي لكن لم يكن يجب أن يكون هو محط التركيز. الخطوة التالية كانت في تسرع إقرار التعديلات عبر استفتاء، بعدما كان القرار الأول هو طرحها لحوار مجتمعي، ثم تعديلها من جديد وبعدها طرحها للاستفتاء الشعبي. حدث بالفعل بعض الحوار لم يتم ترتيبه فجاء “كليشين كان”، الكثير من الضجيج دون طحين، وحاد عن هدفه الأساسي ليتركز على القبول أو الرفض وليس لوضع خطة بديلة أو عدة أطروحات للتعامل مع التعديلات والتوافق حول إحداها، وهو مفهوم الحوار الصحيح وليس استضافة بعض الخبراء وغير الخبراء للحديث وينتهي الأمر بمزيد من التشويش للناس. خلال تلك النقاشات غير المرتبة والتي لم يوضع لها خطة واضحة المعالم، خرجت الكثير من الفزاعات لتكون هي محل النقاش والجدل وليس التعديلات نفسها، من الفزاعات التي خرجت فزاعة الجيش الذي جاء ليحكم لكنه ينفي أنه يحكم- هكذا قالوا- فخاف البعض من الجيش خاصة مع التعامل القاسي الذي وصل حد العنف في أكثر من واقعة، ففضل البعض اختيار الموافقة على التعديلات سعيا لانتهاء الأشهر الستة التي سيبقى فيها المجلس الأعلى للقوات المسلحة ثم يعود الجيش لثكناته ويتفرغ المدنيون لبناء دولتهم، هو رأي يستحق النقاش لكنه ليس أساس التعديلات ولا ينبغي أن يكون أساسا لقبول أو رفض تعديلات دستورية. الفزاعة الثانية التي خرجت هي فزاعة الإخوان والسلفيين والتيارات الإسلامية والتي أسهم في تناميها، ما حدث من إثارة مسألة المادة الثانية والنفخ في تضخيم الخلاف حولها حتى قبل الحديث عن التعديلات، بطريقة أجمع الكثيرون أن تكبيرها كان واضحا فيه ألاعيب جهاز أمن الدولة المنحل. ومع إعلان الإخوان والسلفيين تأييدهم للتعديلات قرر فريق آخر اختيار رفض التعديلات بناء على رفض فزاعة الإسلاميين. وكانت توجيهات الكنيسة برفض التعديلات ورفض فريق كبير من المسيحيين لها والتصويت بلا انطلاقا من هذه المخاوف. هي بالتأكيد مخاوف تستحق المناقشة أيضا لكن ليس في إطار قبول أو رفض تعديلات دستورية. بالتزامن مع تنامي فزاعة الإسلاميين خرجت دعاية الإخوان والسلفيين التي تربط بين التصويت بنعم وبين الدفاع عن الدين وعن المادة الثانية في الدستور والاتهامات للرافضين بالدعوة للانحلال ولسلخ مصر من هويتها الإسلامية ونشر الشذوذ وغيره من الاتهامات التي وردت على لسان شهود عيان من مناطق مختلفة في مصر وصلت لدرجة أن أعداد من المقترعين أقنعوا بأن الدائرة الخضراء تخص المسلمين (نعم)، والدائرة السوداء تخص المسيحيين (لا). النقاش حول هوية الدولة الإسلامية وأهمية الاحتفاظ بها دون المساس بحقوق الأقليات سواء كانت مسيحية أو بهائية، والإعلاء من قيمة المواطنة وحقوق المصريين جميعا جدل هام في بداية العمل لبناء دولة تضمنا جميعا وتحفظ حقوقنا، لكنه مرة أخرى ليس صلب المناقشة التي كان ينبغي أن تثار حول التعديلات للمواد الدستورية التي طرحت للاستفتاء. التصويت جاء في جزء كبير منه خوفا من استمرار القبضة العسكرية أو خوفا من الإسلاميين أو خوفا من الانسلاخ من هوية الدولة الإسلامية أو خوفا من الانحلال وانتشار المعصية، وانتشر الخطاب الديني في حشد الأصوات لنعم ولا بقوة، وكانت نعم الأوضح نظرا للأكثرية من المسلمين. وبقي في النفوس ما بقي بها من الخوف والقلق من المستقبل إذا استمرت تلك الحالة التي تثير الشكوك انطلاقا من هوية دينية وتؤسس إذا استمرت لطائفية لا تحتملها مصر ولا يقبلها الوطن الذي نريده جميعا. ليس الهدف هو البحث عن إدانات أو اتهامات لكنها محاولة لإعادة قراءة المشهد كاملا مع التركيز على الأخطاء أو التجاوزات كي نعمل جميعا على تلافيها. يا سادة حين نتحدث عن تعديلات دستورية علينا جميعا أن نركز في حواراتنا على التعديلات نفسها وطرح كل تخوف للنقاش العلني وعدم تركه بل التوافق حول طرح أو إجراءات تضمن عدم تجسد المخاوف على أرض الواقع. أعتقد أن النقطة الثانية التي غابت على كثيرين وسط تلك النقاشات أن الخلاف الحقيقي بين الموافقين والرافضين للتعديلات عن اقتناع حقيقي مرتبط بالمواد الدستورية مباشرة هو فارق في الطريقة فالموافقون يعتبرونها خطوة أولى نبدأ من خلالها والرافضون اعتبروها خطوة غير كافية يمكننا اتخاذ خطوات أوسع منها بإتباع طريق يبدأ بوضع دستور كامل. أزمة الثقة بين التيارات المختلفة وبعضها والتي وصلت حد التخوين والاتهام بالعمالة لن تنتهي سريعا، وعلى كل العقلاء التعاون لجسر الهوة بين الجميع لن نتفق على شيء واحد أبدا فهذه طبيعة البشر لكن يمكننا النقاش والتوافق، وعلى الجميع البدء في وضع تصورات للمرحلة التالية حتى لا يتحرك المجلس الأعلى للقوات المسلحة بمفرده وبعدها نسترجع ترديد فزاعة الجيش وحكم العسكر. الإعلام يتحمل جزءا آخر من المسئولية فالقيادات الموجودة لم تعتد التفكير بحرية في ظل النظام السابق ولم تعتد التخطيط الحقيقي لخلق أو توجيه رأي عام أو تقديم كل وجهات النظر، فأسهم بقصد أو دون قصد في زيادة التشويش، وهو ما يحتاج دراسته ونقاش حوله ووضع آليات جديد للعمل بحرية لنقل المعلومات وكل وجهات النظر والتركيز على النقطة محل الحوار وعدم التفرع منها لفزاعات، يمكن تخصيص حلقات أو مقالات لمناقشتها في وقت لاحق.