على ممر مرصوف يمين الحديقة الهادئة، اصطفت مقاعد الحفل تحت ظلال وارفة صنعتها تلك الأشجار التي تخبرك هيئتها بأن غارسها قد وارى جثمانه الثرى منذ أمد بعيد. توافد الحاضرون بأزيائهم الكهنوتية والرسمية، فترافق السفراء والدبلوماسيون جوار الأساقفة والرهبان والراهبات، جنباً إلى جنب بعض الباحثين المسلمين من طلبة الدراسات العليا في جامعة الأزهر وكلية دار العلوم. في أمسيةٍ لم تخلُ من نسائمَ لطيفة تهوّن من حر القاهرة القائظ، وقف قداسة الأنبا تواضروس الثاني، بابا الإسكندرية وبطريرك الكرازة المرقسية، يلقي كلمته مستهلاً إياها بسم الإله الواحد الذي نؤمن به جميعاً. أما المنصة فقد جمعت كلاً من الدكتور محمود عزب، مستشار شيخ الجامع الأزهر لشؤون الحوار ومنسق "بيت العائلة المصرية"، وممثلاً شخصياً عن شيخ الأزهر، وسفير الكرسي البابوي في الفاتيكان (القاصد الرسولي بمصر)، والأنبا يوحنا قلتة نائب بطريرك الكاثوليك الأقباط، والأب أمير جاجيه النائب الإقليمي للرهبنة الدومينيكانية في المنطقة العربية. كان ذلك يوم الأحد التاسع من يونيو الجاري، وكانت المناسبة هي احتفال دير الآباء الدومينيكان بمرور ستين عاماً على إنشاء معهد الدراسات الشرقية للآباء الدومينيكان، ذلك الذي يضم أهم وأكبر مكتبة لكتب التراث الإسلامي ومراجعه في مصر. وأما الشاهد من الأمسية فهو المفارقة بين مفهومي "الأمن" و"الأمان". لم يكن حضور الحفل كثيرين في المجمل، لكن عدد الشخصيات المطلوب حمايتها وتأمينها كان كبيراً. فالبابا تواضروس الثاني هو رأس الكنيسة الأرثوذكسية القبطية في العالم، وعدد السفراء والدبلوماسيين الحاضرين يمكن التنبؤ به بلفتة سريعة إلى عدد السيارات الدبلوماسية المركونة في جراج الدير وخارج بوابته. كما أن أفراد الحراسات الخاصة، ببزاتهم الرسمية، وملامحهم المصرية، ونظراتهم الأمنية غير المكترثة بمضمون الحفل، يسهل تمييزهم وسط الحضور رغم قلة عددهم. ورغم ذلك لم يكن هناك ما يمنع من الاقتراب من هؤلاء المطلوب تأمينهم، وتصويرهم، أو حتى التقاط الصور معهم. فتح الدير بوابته على مصراعيها، ووقف الأخ جون درويل بلباسه الكهنوتي في استقبال المدعووين، دون إجراءت أمنية أو تفتيش يذهب بروحانية المكان أو يعكر صفو الضيوف. لم أكن بين صفوف الجالسين وفي الجولة بين رفوف المكتبة مستغرباً شعوري بالسكينة والأمان رغم غياب ما يسمى "الإجراءات الأمنية". لكن عجبي سببه أن الحفل كان مكشوفاً في الحديقة، وهو ما يعد بلغة الاحتمالات والإجراءات الأمنية "غير آمن". والحقيقة أني لم أشعر للحظة بأي تهديد، واستبعدت وقوع أي خطر، رغم منطقية احتماله. كان من الطبيعي أثناء تناول المشروبات أن تزول الاحتقانات الطائفية والمذهبية التي تلاحق مساحاتنا الاجتماعية والسياسية وتنبؤنا بأزمة حقيقية. فتعرفت على الصديق الجديد، أيمن دوس، الشماس الكاثوليكي والمتخصص في الدراسات اللاهوتية، وتناقشنا حول التنوع المسيحي في مصر. وشرح لي الكنائس الأرثوذكسية الأربع، ونظيراتها الكاثوليكية السبع، وأخبرني بأن عدد الكنائس البروتستانتية في مصر يبلغ ثماني وعشرين كنيسة، أكبرها هما الإنجيلية والإنجليكيانية. وسألته عن السبتيين (الأدفنست) ولماذا لا يعتبرهم الكاثوليك مؤمنين بالمسيحية فأجابني. وشاركنا باحثون بالمعهد في كلية دار العلوم والأزهر الشريف اهتمامنا بتعريف عموم المصريين بالتنوع المسيحي في مصر. وهكذا صار غياب الأمن في هذه الأمسية مرادفاً للأمان. وتذكرت حين سألتني أمي ذات مرة وأنا على باب المنزل "هل أنت ذاهب للمظاهرة؟" فأجبتها بالإيجاب، فبكل تلقائية حذرتني من "الأمن". فقد عرفنا "الأمن" في مصر مرادفاً للذعر! ====== نشأت الرهبنة الدومنيكية في القرن الثالث عشر الميلادى في الجنوب الفرنسي، ثم ما لبثت أن وضعت لنفسها أقدامًا فى بلاد الشرق، بدءاً باستانبول وتونس وبغداد ولاحقًا في الموصل. ويرجع أساتذة اللاهوت الدومنيكان فضل معرفتهم بأرسطو إلى الفلاسفة العرب. وقد كتب كلاً من القديس ألبير العظيم وتوماس الأكوينى تعليقات على أعمال ابن رشد وابن سينا. وفى عام 1928 شهدت القاهرة تأسيس دير الدومنيكان على يد الأب أنطونين جوسان (Antonin Jaussen) (1871-1962) وكان الهدف آنذاك أن يكون الدير امتدادًا لمدرسة القدس للكتاب المقدس ودراسة الآثار المصرية فى ضوء الدراسات الإنجيلية. لكن المشروع توقف بسبب الأحداث العالمية آنذاك، حتى جاء عام 1936 وجاء معه ثلاثة رهبان دومنيكان قرروا تكريس حياتهم لدراسة الإسلام، وبدت القاهرة من وجهة نظرهم مقرًا أنموذجيًا كونها حاضنة جامعة الأزهر الشريف، وتأثيرها في الثقافة العربية ككل. وكان أن التقت رغبة هؤلاء الثلاثة، جورج قنواتي وجاك جومييه وسيرج دو بوركى، مع دعوة الفاتيكان لأتباعه بأخذ الإسلام على محمل الجد بعيدًا عن الأهداف التنصيرية من أجل فهم أفضل للإسلام وتقدير أبعاده الدينية والروحية. وما لبث هؤلاء الثلاثة أن بدأوا عملهم عقب نهاية الحرب العالمية الثانية فى مطلع خمسينيات القرن المنصرم وتم تأسيس معهد الآباء الدومنيكان للدراسات الشرقية IDEO والذى صار اليوم معهدًا عالميًا متخصصًا فى الدراسات العربية والإسلامية. أسس المعهد الأب جورج شحاتة قنواتي (1905 – 1994)، ذو الأصل السكندري، الذي التحق بسلك الرهبنة الدومينيكية عام 1934، بمشاركة زميليه الفرنسيين؛ الأب جاك جومييه (1914 – 2008)، والأب سيرج دو بوركي (1917 – 2005). والهدف هو إقامة الحوار مع المسلمين عبر البحث العلمي في التراث والتاريخ الإسلامي. وقد كان للراحل الأب جورج شحاتة قنواتي دور كبير في تأسيس حوار الفاتيكان مع العالم الإسلامي.