إلى أي حد يبلغ التقارب بين الإنسان والآلة؟ هل يجري تقريب الآلة من الإنسان، أم أن الأمور تسير في اتجاه مُعاكس؟ بمعنى جعل الإنسان آلة ذكيّة؟ تطرح هذه الأسئلة نفسها في ظلّ متغيّرات عوالم المعلوماتية والاتصالات المتطوّرة، خصوصًا علاقتهما مع علوم الإدراك البشري. في هذا السياق، يروج حديث كبير عن مفهوم ال"سايبورغ" Cyborg، بوصفه نموذجًا عن مسار العلاقة بين الإنسان المعاصر والآلات الذكيّة. لا يقتصر أمر ال"سايبورغ" على الخيال العلمي وأفلامه ورواياته، لأنه بات موجودًا فعليًا. أبعد من هويّة ملتبسة، يرتكز نسيج ال «سايبورغ» حاضرًا على إدخال دوائر إلكترونية في جسم الإنسان؛ لإنجاز وظائف تنهض بها أعضاؤه الطبيعية، وربما أكثر. وتأتي كلمة سيابورغ من مزج كلمتي "سايبر" Cyber، وتشير إلى أشياء تتحكّم بنفسها بصورة مؤتمتة، وبمعنى الاعتماد على المعلوماتية الرقمية. وكلمة "أورغانزيم Organism، وتشير إلى المكوّن البيولوجي الحيّ، وهي الجسد البشري في هذه الحال. وما زال تعريف المصطلح صعبًا، خصوصًا لجهة تحديد مدى قرب هذا الكائن (سايبورغ) من الإنسان، مقارنة بقربه من الروبوت، وهو الإنسان الآلي تعريفًا. في عام 1960، جهّز عالمان أمريكيان، هما "مانفريد كلينس، وناثان كلاين"، فأرة بمضخة مهمتها حقن المنتجات اللازمة لبقائها حيّة في الفضاء، وكان الهدف من هذا الاختبار صنع نظام يدعم التنظيم الذاتي المؤتمت عند الإنسان، ارتكازًا إلى منظور السفر بين الكواكب. وأطلقا على هذا النظام تسمية "سايبورغ"، ما رسم صورة عن كائن بيولوجي حيّ مطعم بملحقات اصطناعية. وبذلك من المستطاع وصف الإنسان الذي تُزرع له يد اصطناعية ذكيّة، بمعنى أنها تعمل عبر رقاقات إلكترونية، بأنه "سايبورغ". وبرز سؤال عن تصوّر أن تُربط خلايا دماغ الكائن البشري، وهو مركز تفكيره وشخصيته وهويته الإنسانيّة، مع الكومبيوتر والرقاقات الإلكترونية، التي تتمتع بالذكاء الاصطناعي. في هذه الحال، ما الذي يحصل في العمليات الإدراكية للإنسان، خصوصًا حين تتولى أعصاب الدماغ إدارة رقاقات إلكترونية تتمتع، بمعنى ما، بالقدرة على التفكير أيضاً؟ تتفاوت مفاهيم العاملين على البحوث حول هذا الموضوع. فمثلًا، طرح الفيلسوف الفرنسي تييري هوكيه، سؤالًا عن وجود تاريخ طويل من "التآزر" بين الآلة والإنسان، على نحو صنع أدوات حجرية واتّخاذ ملابس واقية من البرد في أزمنة قديمة، وحتى وضع نظارات تُدعّم عمل العين وقدرتها على الإبصار. الذكاء الاصطناعي للرقاقات في المقابل، مال كثير من البحّاثة إلى التشديد على الربط بين مفهوم ال "سايبورغ" والذكاء الاصطناعي، كذلك الذي يظهر في الرقاقات الإلكترونية، وهي العقول المُفكّرة في الكومبيوتر. ورأى هؤلاء أن البشرية لم تدخل عصر ال "سايبورغ" إلا مع انتشار الأجهزة الإلكترونية، واندماجها في الحياة اليومية للناس بطرق جعلتها غير قابلة للاستغناء عنها، على غرار التلفزيون والراديو والهاتف والخليوي والأقمار الاصطناعية والكومبيوتر والإنترنت وغيرها. وبفضل هذه الآلات الذكيّة، توسّعت آفاق الكائن الإنساني وتفاعلاته مع غيره، إضافة إلى توسّع آفاق تفاعله مع الكون، وهو معنى أساسي في مفهوم "سايبورغ". هناك من رأى في هذا الطرح وهمًا، لأن التقدّم من سمات الإنسان، وكل ما يتّخذه من أدوات وتقنيّات إنما هي شواهد على حيوية فكر الكائن البشري. بقول آخر، سعى الإنسان دومًا إلى زيادة قدراته الطبيعية عبر أشياء ليست طبيعية، بل هي من صنعه. ولكن، يصعب إغماض العين عن واقع أن إضافة الإنسان إلى قدراته دخلت طورًا جديدًا بصورة نوعيّة، عندما باتت الأشياء المستخدمة في تدعيم الصفات الطبيعية للكائن البشري (الأطراف الاصطناعية، أدوات تحسين السمع والبصر...)، تتضمّن الذكاء الذي هو مُكوّن يقف في القلب من تعريف الإنسان وهويته. هل يؤدي إدخال الذكاء الاصطناعي إلى الآلات التي تقوم مقام أعضاء الإنسان، بابًا مفتوحًا على كائن مختلف نوعيًّا، كأن يكون له عضلات اصطناعية تستجيب لأوامر دماغه لكنها لا تصاب بالتلف والضعف والذواء وهي ما تصل إليه عضلات البشر طبيعياً؟ ماذا لو حدثت أمور مُشابهة بالنسبة إلى السمع والبصر؟ هل نصبح كائنات "سايبورغية" كليّاً؟ عبور من الإنسان إلى ال "سايبورغ" في صوره الوضع الحالي، من المستطاع القول بأن العلماء توصّلوا إلى صنع أجهزة ذكيّة لتحسين السمع، على غرار أجهزة تعزيز الأداء العصبي "نيرو بوست" التي تُحسّن السمع (لكنها تقدر على شلّه أيضًا، فيصبح المرء أصمّ). وكذلك توصّلوا إلى بناء نظام لاستعادة النظر، عبر زرع مجسّ اصطناعي على المنطقة الدماغية المعنية بتلقي الصور من العين، ما يجعلها قابلة للتعامل مع صور رقميّة تأتيها من كاميرا متطوّرة، أو ربما من الكومبيوتر. وهناك من العلماء من عملوا على التوصيل المباشر بين رقاقات إلكترونية وأعصاب الدماغ، ما يجعلهما نظامًا عصبيًّا متكاملًا ومتطوّرًا. ومع التقدّم في علوم تصغير الدوائر الرقمية، برز إمكان صنع أعضاء ذكيّة، تحلّ مكان الطبيعية، وترتبط بالدماغ الذي يديرها وكأنها جزء طبيعي من الجسد، لكنها ربما كانت أكثر قوّة من العضو الذي حلّت محلّه! وغالبًا ما يستخدم مصطلح "ترانس هيومانيزم" Transhumanism، بمعنى عبور الإنساني أو ما بعد الإنساني، في وصف مسار هذه التطورات التقنية وآلياتها وتداعياتها. ويشير مصطلح "ترانس هيومانيزم" إلى حركة فكرية علمية، تدعم استخدام العلوم والتكنولوجيا، لتعزيز قدرة الإنسان الفكرية والجسدية وتحسين ما يمكن تحسينه (وكذلك إلغاء ما يفضّل التخلّص منه على غرار الشوائب الخلقية وربما السلوكية أيضًا)، عن طريق استخدام تقنيات المعلوماتية والاتصالات. ويتكاثر أتباع هذه النظرية باستمرار، بغض النظر عن المسائل الأخلاقية والتحديات الثقافية والفلسفية، التي تثيرها هذه الحركة، خصوصاً لجهة التبدّلات المحتملة في كينونة الإنسان. ماذا ينتج جراء تعميم هذه الممارسات على البشر؟ ما هو شكل الفرد، عندما تصبح قدراته البدنية أو العقلية، محكومة بآلة ومرتكزة عليها؟ كيف تتعامل الفلسفة وعلوم النفس والاجتماع وغيرها، مع التناقضات الكثيرة التي ترافق هذا المسار الحسّاس، على نحو ثنائية إنسان- ما بعد إنسان، أو بشر- روبوت وغيرها؟ هل يكون الحلّ بنوع من الاتحاد بين الذكاءين الإنساني والاصطناعي؟