يوم ملوَّن من أيام السنة نعتصر فيه الأريج من عدة أزاهر لنتنسمها بحواس مضاعفة ورونق معبق بعبير الورود وروائح النباتات، المزهوة بجمال الشباب على الدوام. "كل عام وانتم بخير" ساعات قليلة ويستقبل المصريون أقدم أعيادهم وهو "شم النسيم"، الذي نتمنى أن نجد هواءً نظيفًا كما كان يستمتع به أجدادنا منذ آلاف السنين، ولكن نريد أن نستقبله هذا العام ونتعلم منه المصريين الإيمان بقيمة الحياة وأهميتها، وضرورة استمراها، والاستفادة من كل مواردها فضلًا عن المودة واحترام ديانة الآخر حيث أجلوا الاحتفال بعيدهم لينتهي المسيحي من صيامه "عيد القيامة" بعد دخولهم مصر.. ومن ثم شم النسيم لم يكن فسيخًا وبصلًا، حتى المأكولات كانت تتصل بعقيدتهم وإيمانهم بالحياة. يقول د.عبد الحليم نور الدين أمين عام المجلس الأعلى للآثار الأسبق: إن عيد شم النسم مصري قديم وكانوا يطلقوا عليه اسم "عيد الإجازة" أو "عيد استمرار الحياة" أو "عيد الربيع"، ومرتبط بعقدية المصريين المرتبطة بفكرة الحياة ما بعد الموت، وأن كل شيء في الكون له دور معين يقوم به، فالشمس تشرق ثم تغرب ثم تشرق من جديد، والنباتات تخضر ثم تصفر ثم تتحول إلى الأخضر من جديد، وهو ما يدعم فكرة البعث ما بعد الموت التي هي من صميم عقديتهم، مضيفًا أن الشواهد التي ولدت فكرة التحدي في الحياة لدى المصري القديم جعلته يبتكر عيد الربيع، والذي عرف ب"شم النسيم"، والنسيم كلمة عربية، أما "شم" فهي مشتقة من "شمو" وهي فصل الربيع أحد الفصول الثلاثة لدى القدماء المصريين عكس العصر الحديث الذي أصبحت الفصول فيه أربعة . وكان "شمو" فصلًا يضم الربيع وجزءًا من الصيف يحتفل فيه كل المصريين، فهو عيد مرتبط بالأرض المصرية والمعتقدات المصرية المؤمنة باستمرار الحياة وتجددها، وكان يستخدم المصريو القدماء في عيد شم النسيم نفس المأكولات التي يستخدمها المصريون الآن من "فسيخ أو أسماك مملحة – بصل – الخس – البيض"، وكان لكل أكلة رمزية خاصة ودلالة معينة تحملها. وأشار إلى أن "البيض" كان رمزًا للتكاثر واستمرار الحياة وتجددها، فالبيض تخرج منه صغار الفراخ، والتي بدورها ستكبر لتساهم في تكاثر جديد يملأ الكون بالحياة، أما "السمك المملح" ترمز عند المصري القديم للإله "أوزير" والملح يعني الحياة, وعند المسيحيين ملح الأرض يعني رجال الكنيسة, والسمكة تسمي بالقبطية "أخسيس" وهي الحروف الأولى للسيد المسيح, والسمك يتميز بأنه يلد الآلاف من حيث الكثرة العددية ومن ثم فهو يساعد على ازدهار البشرية، وأن أكل السمك مملح يعود إلى أنه غير متوفر باستمرار، ومن ثم يجففوه ليأكلوه في أي وقت، والاستفادة من الملح الغذائية للجسم. أما عن "نبات الخس" يقول نور الدين: إن القدماء المصريين كان لديهم إله للإخصاب يسمى "مين"، وكان ذلك جزءًا من عقيدتهم المؤمنة بالبعث والحياة ما بعد الموت، وكان نبات الخس"يحتوى على زيت يقوي الإخصاب، لذا يتم الحرص على تناولة في المناسبة المرتبطة باستمرار الحياة، عيد "شم النسيم"، أما البصل فكانوا يستخدمونه لطرد الأرواح الشريرة عمومًا، وهي عادة كانت القرى والنجوع تستخدمها لوقت قريب، ومن ثم كان يتم استخدامه في عيد شم النسيم لطرد كل الأعباء والمشكلات التي تعرضوا لها طوال العام، فضلا عن الماكولات ينطلق المصريين للاحتفال فى الحقول والانهار والاستمتاع بالزهور المتفتحة الجديدة. وأكد أنه علينا تسجيل ملاحظة مهمة وهي: "لماذا يأتي عيد شم النسيم بعد عيد القيامة للسيد المسيح عليه السلام؟ وتابع: إنه عندما دخلت المسيحية مصر، كان المصريون القدماء ما زالو على معتقداتهم ومصر فى رحاب الوثنية، وعندما وجدوا احتفالات شم النسيم تتم في نفس توقيت صيام المسيحين في ظل طقوسهم لاستقبال عيد القيامة، فقرروا تأجيل احتفالاتهم حتى ينتهي المسيحيون من الصيام تقديرًا واحترامًا لصيامهم وعيد قيامة السيد المسيح، مضيفًا أن ذلك الموقف الذي اتبعه المصريين يدلل على مدى احترام ديانات الآخر، وأن المصري القديم كان يتمتع بروح قبول الآخر والتفاهم معه، بل مشاركته أفراحه وأعياده، لذا نرد على كل الدعوات السيئة التي تتردد الآن وتحريم الاحتفال بعيد شم النسيم، فهو عيد لكل المصريين وليس مرتبط بدين معين. ومن جانبه يفسرد.محمد إبراهيم بكر رئيس هيئة الآثار الأسبق طبيعة الشعب المصري المرتبطة بأهمية الأعياد في حياتهم منذ الحضارة المصرية القديمة قائلًا: إن الشعب المصري وكأرض مصرية نحمل أقدم وأطول تاريخ في العالم، فهي علَّمت اليونانيين ثم الرومانيين التي نقلوا بعدها علوم المصري القديم وفنون لكل أرجاء أوربا. وأضاف أن مصر لم تتغير خريطتها ولا أرضها على مر التاريخ منذ توحيد القطرين في عهد الملك مينا، وكانت قبلة السياحة العالمية منذ أقدم العصور، والشعب المصري بطبيعته كان مشهورًا بالمرح والمهرجانات والأعياد المختلفة التي كان يتم الاحتفال بها في كل أقاليم مصر القديمة وعواصمها، وكانوا يستقبلون مختلف الاعياد بطقوس مهرجانية بديعة من ارتداء ملابس جديدة، والتنزة في الحقول، والموسيقى والرقص، وأن عيد شم النسيم أو عيد الربيع لدى القدماء المصريين، كان يستقبلون المصريين بالاحتفالات والمهرجانات من السهر والسفر والانتقال بين الأقاليم المصرية المختلفة، تنظيم الحفلات الراقصة المصاحبة بالأغاني، وكان المثير للانتباه أن الكهنة والملوك والأمراء يشاركون الشعب احتفالاته بل يفتتحون مراسم وطقوس اليوم في الساحات الكبيرة بمختلف الأقاليم، وتتزين الفتيات بزهور الربيع، ويرتدين الملابس الجديدة ويشكلوا مجموعات راقصة على أنغام الهارب والتروميبت والطبلة وكل الآلات الموسيقية كانت مرسومة على جدران المعابد توثق للاحتفالات.. وأكد أن المصريين لم يتناولوا المأكولات الشهيرة كالبصل والأسماك المملحة كمجرد عادة سنوية، ولكن كان لكل صنف صدى مرتبط بعقيدتهم، فالبيض رمز لبداية الخلق، فالبيضة تعبر عن الخالق وقوته وإعطائه الحياة للعالم كله، أما السمك المملح تدعم فكرة التكاثر واستمرار الحياة حيث تشتهر الأسماك بالكثرة العددية في التوالد، أما البصل فكان المصريين يضعوه تحت رأسهم؛ اعتقادًا بأنه يطرد الأرواح الشريرة لرائحته النفاذة في ليلة الاحتفال بعيد شم النسيم، وعندما يستيقظون مبكرًا ويذهبون إلى الأنهار أو الترع؛ لينعموا بشم الهواء العليل، يلقونه في النيل، وكأنهم يتخصلوا معه بكل اعباء ليالى الشتاء الطويلة. ويرى د.محمود جبلاوي - أستاذ الديانة والعمارة بكلية آثار قنا – أن الأعياد لدى المصريين القدماء لم تكن مجرد احتفالات ومراسم ومهرجانات بل كانت مرتبطة بشكل أساسي بعقيدة المصريين القدماء القائمة على البعث والخلود، وإدراك قيمة الحياة واحترام كل مفرداتها، مضيفًا أن فكرة الاجتماع والمشاركة بين المصريين مرتبطة بإرساء مبدأ الخصوبة في العالم كله، والرغبة في تعمير الأرض واستمرار الحياة، وإعادة الخلق من جديد، والذي يشتبك مع إيمانهم بالبعث والخلود، منذ عهد الإله آمون فكان يشارك في عيد "أوبت" مماثل لعيد شم النسيم وكان ياخذ الإله فيه ثلاثة أشكال، الإله آمون "نب نت" رب السماء، ثم الإله آمون "كاموت اف" ثم الإله "كيم"؛ لينتقل عبرالأشكال من معبد الكرنك إلى الأقصرعابرًا على نهر النيل؛ ليفشى شوهو الخصوبة وتجدي الحياة فى كل الكائنات الحية من نباتات وزهور وحيوانات وبشر لدعم فكرة الخلود والبقاء وإن هناك حياة جديدة تولد بعد الموت.