قدم الباحث عماد عبده الطروانة وهو أردنى الجنسية رسالة دكتوراة بعنوان "محمود درويش جدلية الخطاب الشعرى وتجربة الحياة" ونقشت الرسالة بمعهد الدراسات العربية بالقاهرة أشرف عليها الدكتور صلاح فضل وشارك فى تحكميها كل من د. محمد بريري، ود. مصطفى الضبع، واتفق الجميع على أن هذه الرسالة من أهم وأقيم الرسائل التى شهدها المركز، وحصل الباحث على دكتوراة بدرجة امتياز مع مرتبة الشرف تقديرا لما اورده فى هذه الرسالة من معلومات ونتائج قيمة. وفيما يلى نص الرسالة وتخلص الدراسة إلى أن : تجربة محمود درويش طمحت الى كتابة الحكاية الشخصية المعجونة بالحكاية الجماعية الفلسطينية، وإضفاء معنى على هذه الحكاية من خلال تصعيد التجربة الفلسطينية، والبلوغ بها أفق الأسطورة، والكشف عن البعد الملحمى فيها، بالشخوص والأحداث، وحشد الاستعارات والصور المركبة التى تزدحم فى قصائده بدءا بعصافير بلا أجنحة وصولا الى أثر الفراشة، فكان تحدى درويش لمواجهة احتلال ارضه وتهجير شعبه والظروف القاسية وحالة الاستلاب التى كان يعيشها فى ظل الاحتلال لم تجعله غريبا فى وطنه فقط، بل جعلته غريبا عن ذاته أيضا، ومع ذلك فهو لم يستسلم لتلك الحالة فيفقد انتماءه وهويته، بل قاومها بالاستعانة بثلاثة اساليب هى: اولا : بالدفاع عن قضية شعبه والاندماج بالسيرة الجماعية للشعب الفلسطينى ثانيا: بالانتماء الى الحزب الشيوعى الإسرائيلى ثالثا: بتفريغ الشحنات العاطفية فى عمل أدبى يحقق له الانسجام مع الذات فأصبحت ثنائية الوطن والمنفى هى الهاجس الاساسى فى شعر درويش، وقد يكون ذلك سببا فى الجماهيريةالواسعة التى كان يتمتع بها فأمسيته الشعرية تشبه طقسا، وصدور كتاب جديد له يشبه موسما، وذلك لأن حركته بين الوطن والمنفى كانت تعبر عن رحلة شعب بأسره، وإقبال الجماهير على أدبه يدل على القدرة على التمثيل الصحيح للوعي الصادق والحقيقي والممكن، لأن هناك درجات من الوعي الحقيقي المنجز بالفعل، والوعي الممكن المستشرف للمستقبل والمكتشف لآفاقه، فقد مثل عمل محمود درويش الشعري نموذجا إشكاليا في العلاقة بين الشعر والتاريخ فعلى الرغم من أن هناك اشتباكا واضحاً بين شعر درويش، السياسي، بخاصة قد فهمت خطأ في النقد العربي المعاصر، من خلال تأويل كتابة درويش الشعرية بوصفها انعكاساً لقضيته الكبرى (فلسطين) ليست قضية فلسطين سوى الخلفية التي يتحرك إنجاز درويش الشعري استناداً إليها، وهي بوصفها تراجيديا كبرى في تاريخ البشر المعاصرين، تكون العمود الفقري لقصيدته، حيث تلقي بثقلها على خياله الشعري وصوره وإيقاعاته ورؤيته الشعرية للعالم، في هذا الإطار يطور درويش الذي كتب العديد من قصائده تحت ضغط الوقائع التاريخية المعاصرة، علاقة شعره بالحدث اليومي العابر، رافعاً هذا الحدث إلى مقام الأسطوري الذي يتخطى العارض والمؤقت، وقد شهدت تجربة درويش الشعرية انحناءات وتحولات في هذه العلاقة: من كتابة قصيدة غنائية، ذات شبهة رومانسية، تستلهم الحدث اليومي والوقائع العارضة، إلى البناء على هذا الحدث لكتابة قصيدة ملحمية كبرى ذات إيقاعات بطولية صاخبة، وصولا إلى خلق أساطير جديدة وربط حكاية الفلسطيني بحكايات الآخرين من الشعوب الغاربة (الآندلسيين والهنود الحمر وحتى الكنعانيين). لقد توفرت للشاعر أسباب موضوعية وأخرى ذاتية لبلوغ هذا الموقع، وحدث أحياناً أن كان التفاعل بين هذين النوعين من الأسباب في صالح مشروع درويش الشعري في حصيلته، كما حدث في أحيان أخرى، أن ضغط الشروط الموضوعية الزم الشاعر بدفع برنامجه الجمالي إلى الصف الثاني والسماح للمهمة الوطنية باحتلال الصف الأول، ولكنه في كلتا الحالتين أثبت حساسية فائقة تجاه تطوير لغته وأدواته وموضوعاته، خاصة في العقدين الأخيرين من مسيرته الشعرية حين استقرت كثيراً معادلة العلاقة التبادلية الوثيقة بين تطوير جمالياته الشعرية وتطور نفوذه الأدبي والثقافي في الوجدان العربي، وفي طليعة الأسباب الموضوعية أتى انتماء الشاعر إلى تلك الحركة الشعرية الغنية التي كانت قد أخذت تتطور في فلسطينالمحتلة منذ مطلع الستينيات، ثم اكتشفها العالم العربي في أوج هزيمة 1967م فأطلق عليها أسم "شعر المقاومة"، انسياقاً وراء الحاجة الماسة إلى بدائل خلاصية تخفف وطأة الاندحار، وتعيد الأمل إلى روح تعرضت لجرح عميق، وبين مجموعة شعرية وأخرى أخذت سلطة درويش الأدبية تتعائم وتترسخ، فأدرك أن موقع الشاعر الناطق باسم الوجدان الجمعي للأمة يقتضي، قبل أي تدبير آخر، تطوير الموضوعات والأدوات والأساليب التي تضمن لشعر أن يواصل الحياة تحت اسم وحيد هو الشعر، ولقد أسفر ذلك عن مزيج ناجح من شخصية الفلسطيني المناضل والمقاوم، وشخصية الشاعر الذي تتصف قصائده بمستوى فني رفيع، فاجتذب درويش القارئ العادي والقارئ المثقف على حد سواء، وكانت أمسياته الشعرية بمثابة أعراس احتفالية، جمالية وسياسية وطقسية، يزحف إليها الآلاف ورغم أن تقسيم التجارب الشعرية الكبرى إلى "أطوار" أو "مراحل" أو أحقاب" يظل خياراً محفوفاً بالمزالق، إلا أنه رياضة مستحبة منهجيا، من جانب آخر يحتاج إليها المؤرخ الأدبي، كما أنها تخدم دارس الشعر مثل قارئه العريض. لقد حاولت الدراسة أن تكشف عن عناصر السيرة الشعرية من خلال جزأيها الذاتي والجمعي، فكشفت ‘لى المستوى الفردي عن كثير من ملامح الذات من خلال مراحل عمرية مثل الطفولة ورؤية الشاعر فيها في ظل الوضع الفلسطيني الذي يعاني من الاحتلال، كما أبانت من الأحيان على جدليات أدت إلى إشكاليات وكانت هذه العلاقات على النحو التالي: . العلاقة بالزمن التي تبلورت من خلال الطفولة فهي التي حددت معالم نظرة الشاعر للحياة والإبداع. . والعلاقة بالحياة والعلاقة بالمحيط السياسي والعلاقة بمتغيرات الوضع الفلسطيي المرتبط بواقع القضية. . العلاقة بالإبداع التي قامت على إشكاليات وجدليات مدخلها الأساسي ذات الشاعر نفسه التي أبرزت الهوة بين الذات والأبداع والواقع الفلسطيني الذي يجعل العلاقة قائمة على جدلية العلاقة بالآخر: وقد تبلورت بشقيها الخاس والعام والتي أبانت عن محاور العلاقة بالآخر المحتل والعربي والغربي والذي كان المشكل الأساس فيها هو الصراع مع الإسرائيليين. . كشفت الدراسة عن الأمكنة التي تنقل بينها الشاعر وعلاقته فيها وموقفه منها ومدى ما عكسته على تجربته الشعرية وما عكسته أيضاً من تشتت الفلسطيني وتشظيه وتوزعه على الأمكنة. . و كشفت الدراسة ايضا عن علاقة درويش بالأمة والتاريخ وهو يعكس العلاقة الجمعية للشعب الفلسطيني فقد أبانت الدراسة حياة الشاعر ودورها في صياغة خطابه الشعري وربطها بحياة الجماعة الفلسطينية ونضالها ومقاومتها، وتحديها للاحتلال، ومعاناتها وأمها وعذابها. أما التاريخ: فإن المراحل التاريخية التي مرت على الشعب الفلسطيني أثرت في حياته، وبلورت فيها حقباً جديدة مع كل فترة من فتراته يمكن أن تعتبر تحولاً تاريخياً ثم يأتي المكان متعدداً من تعدد الأمكنة التي تعامل معها الفلسطيني، فقد كشف هذا المحور عن علاقة الفلسطيني بالوطن والأرض وعن علاقة بأمكنة التنقل والترحال. . مرحلة ما قبل الخروج من الوطن، وهي بداية مشروعه الشعري، حين كانت قصيدته غنائية أحاديه الصوت، قلد فيها من سبقه من الشعراء، وكانت قصيدة ملتزمة بالقضية الوطنية، همها أن تصل الناس، وتنمي لديهم الوعي بالواقع الذي يعيشونه. . مرحلة ما بعد الخروج من الوطن والإقامة في المنفى الاختياري، حين عاش الشاعر تناقضات الواقع العربي، وأستطاع بمهارته الفنية أن يعبر عن هذا الواقع بجماليات فنية، وظف فيها عناصر أدبية جديدة مثل السرد والحوار والسؤال المستمر، وتعددت الموضوعات في القصيدة الواحدة، فأخذت تستوعب الأسطوري والديني والتاريخي وتصوغه ضمن إطار القصيدة الموحدة المتكاملة، وإزداد عمق الوعي عند درويش فأخذ يقدم التجربة الفلسطينية ضمن معان إنسانية، استمدها من تاريخ الإنسان في صراعه المستمر مع الحياة، كما ظهر ذلك في قصائد عديدة لدرويش، أهمها مديح الظل العالي، وحجر كنعاني في البحر الميت، ومأساة النرجس وملهاة الفضة. . مرحلة العالمية خارج الوطن العربي، حيث تحولت قصيدته إلى تأملات فردية وإنسانية كانت ذروتها في لماذا تركت الحصان وحيداً، إذا اعتبرنا أن قصائد الديوان قصيدة واحدة، فهو يعبر فيها عن الذات الفردية والجمعية من خلال الظروف التي تعيشها الذات بعد هزيمتها في بيروت، وخروجها إلى المنافي والمخاوف التي تنتاب الجماعة على مستقبلها. قدمت الدراسة رصداً لتحولات الخطاب الشعري من خلال المتغيرات الأيديولوجية والفكرية والاجتماعية في حياة درويش. . فقد كشفت الدراسة عن العديد من القصائد التي سبق للشاعر أن نشرها ومن ثم تخلى عنها أو نشرها في الصحف والمجلات ولم يدرجها في دوواينه الشعرية أو أعماله الكاملة. . و كشفت الدراسة عن التغيير والحذف الذي كان يجريه الشاعر بدواعي سياسية أو جمالية. وأخيراً، فإن كثيرا من النتائج التي توصلت إليها الدراسة بقيت مسكونة في داخلها، وبين أسطرها، مجموع النتائج التي يمكن أن يسهم بها هذا البحث على المدى البعيد والتي يدعو إليها مستقبلاً في التعامل مع أي حركة نقدية يثيرها شاعر ما، هي: . تحريض الحركة النقدية على متابعة نتاج محمود درويش نقديا ومعرفيا في إطار الرؤوية الكلية للمشروع الدرويشي. . إعادة النظر في أشعار تم حذفها ولم تدرس من قبل النقاد لعدم معرفتهم بها ووضعها في سياق تجربة الشاعر الإبداعية. . وضع تجربة محمود درويش في مواجهة نقدية عالمية، يمكن من خلالها أن تقدم فهماً أعمق، وتحليلاً أشمل للنص الدرويشي. . إعادة النظر في تجربة محمود درويش قراءتها بوصفها مشروعاً شعرياً له سماته وأهدافه ورؤاه، وليس مجرد تجربة عادية، لذلك يجب إعادة النظر أيضاً في الحركة النقدية التي رافقته على مدى أربعين عاماً، وتقويمها ووضعها في مكانها المناسب. أخبار مصر – البديل