أحسب أن باستطاعة الأستاذ محمد حسنين هيكل الاستئذان بالانصراف عن قرائه وحواريي تحليلاته الرصينة والمعمقة، لكن لا أظنه يطيق صبراً على اعتزال هوايته الفريدة في الإدهاش وكشف المستور في دهاليز السياسة الإقليمية والعربية والدولية، فبقدر ما تفيض جعبة الساحر بمفاجآت وأسرار صادمة تتباين ردود أفعالها بين الازعاج أو اثلاج الصدور، فإن جعبة هيكل دائماً ما تكون كاشفة لحقائق ملموسة طالما عايشناها كرؤيا في برزخ من الغموض، لكن وللحق أعيانا التعب بحثاً عن أدوات وحقائق ملموسة لتفسيرها وقطع الشكوك المتراكمة باليقين البين، خاصة إذا كانت أنواء ما انخدعنا في أنه (ربيع عربي) كانت من القوة بحيث قامت بتجيير بوصلة الرؤية والتقدير السليمين وانحرفت بالسفينة الى ما لا يخطر على بال من فوضى ومؤامرات. أسقطت الاطلالة التليفزيونية الأخيرة ل(الجورنالجي) هيكل على قناة (سي بي سي) الأقنعة عن الوجوه الملثمة خلف أستار الظلام، لتكشف للمواطن المصري حقيقة الخديعة التاريخية الكبرى التي تعرض لها منذ لحظة هبته ضد ديكتاتورية مبارك، ولتزيح الستار عن أبشع صور الالتفاف الأمريكي على 25 يناير وتفريغها من جوهر أهدافها بل وترويضها وحرفها لخدمة المخططات المستقبلية للمصالح الأمريكية، فالأمريكيون ووفق تعبير هيكل أصبحت لهم كلمة سياسية واضحة في الشأن المصري عقب اندلاع الثورة بشكل غير صحي. لقد فجر هيكل القنبلة بما نقله عن الرئيس السابق للمجلس العسكري المشير محمد حسين طنطاوي قوله إن خارطة طريق إدارة المرحلة الانتقالية بإجراء الانتخابات البرلمانية قبل كتابة الدستور لم تكن خيار العسكريين على الإطلاق، حيث كان الأمريكان لا يرون باعث قلق في أن تأتي الانتخابات بالإسلاميين.. الى هنا انتهى ما أحسبه المقطع الأهم في كلام الأستاذ، بما يحمله من إشارات دالة على طريق ما شهدته مصر من تطورات كارثية منذ تنحي مبارك وحتى مرور خمسة أشهر على وصول الرئيس الإخواني محمد مرسي سدة الحكم، وهو ما لا نبالغ اذا قلنا أنه مفترق طرق في عمر الدولة المصرية العتيدة!! وإذا كان معلوماً، بل ومفهوم تلك الرغبة الأمريكية الجامحة في فك وتركيب منطقة الشرق الأوسط واستبدال قهر الدبابة والثكنة العسكرية باستبداد من نوع جديد يعتمر عمامة الدين ويتمسح بجلبابه، وبما كشفه دون أدنى شك الانحياز الأمريكي الأخير لمرسي وجماعته في وجه الغضب الشعبي العارم، فإن تلك الحقيقة الظاهرة للعيان وفي ضوء ما فجره هيكل لا تعفي طنطاوي ورفاقة من المسئولية التاريخية عن الإدارة المتواطئة للمرحلة الانتقالية، ولعل فيما نقله هيكل عن طنطاوي من مساومة أمريكية للعسكر ربطت الإدارة المشوهة للانتقال الديمقراطي بتسليح الجيش المصري ما يضاعف حجم الاتهام ويغلظه، فعذر طنطاوي ومجلسه العسكري السابق أقبح من ذنبهم بعد أن أسدل الستار عن أكبر صفقة سياسية خاسرة في تاريخ مصر قايضوا فيها على تسليم أحلام ومستقبل المصريين الى المجهول مقابل عصا التهديدات وجزرة المساعدات الأمريكية، في تجاهل فج للمصريين أصحاب الشأن الحقيقيين وحقهم في تحديد اختياراتهم وتحمل المسئوليات المترتبة عليها. واليوم، وأمام ما تدفعه مصر من ثمن باهظ لروشتة الأمريكان لمستقبلها، يظهر الفرز الحقيقي بين أجندة وطنية تتباهى بقوميتها وعروبتها وبين أجندات أخرى باعت الكرامة بالسراب وقايضت العزة بالمال والخوف، ولا أجد حجة لمتنطعي القوم حين يتشدقون بمزاعمهم أن العدوان الثلاثي عام 1956 هو مغامرة من الزعيم جمال عبدالناصر، فالرجل وبحس وطني وثقة في قدرات شعبه قاوم ضغوط ومغريات الارتماء في أحضان أمريكا والغرب وامتلك شجاعة الأسود في الصمود ضد التهديدات وتسامى بنفسه وشعبه عن اذلال القروض الدولية، والظن أن حسابات عبدالناصر حينها كانت تضع في الاعتبار الثمن الأكبر للانصياع وصفقات تحت الطاولة، تلك كانت ثقة القائد والزعيم في شعبه، وهذه اليوم رؤية عسكر كامب ديفيد للمصريين. اليوم، وبعد هذه المؤامرة المحبوكة التي شقت صف المصريين وتلاعبت بأحلام فصيل منهم وأشاعت الفوضى بين أركان وطنهم، لا بأس أن نجد (25 يناير) تتعثر في أزقة وشوارع واشنطن وسفارتها بالقاهرة باحثة عبر رسل حكامها الجدد عن مد صلاحية صك الاعتراف الأمريكي بعد أن تكشف فشل مشروعهم، فيما يثير نفر من معارضتها مخاوف اللوبي الصهيوني عبر الصحافة الغربية بالحديث عن انكار منافسيهم ل (الهولوكست)، وفي ذلك يتسابق المتسابقون قاطعين أشواطاً واسعة على حلبة مشروع الشرق الأوسط الجديد، ويقدم كل طرف أقصى ما عنده من فنون ومهارات ليثبت أنه قادر قدير أو قادم بديل في خدمة السيد الأمريكي. قد يكون فيما أسلفت باعثاً للخوف والقلق على مستقبل مصر، لكنه أبداً لن يكون بوابة لليأس، فللتاريخ كلمة، وكلمته تقول بكل ثقة أن مصر التي نجحت في كسر أقدام المغول وقهر ارهابهم على بواباتها بعد أن عاثوا فساداً في بلاد العرب، هي قادرة طال الزمان أو قصر على سحل مشروع الشرق الأوسط الكبير على بوابتها، ورد المؤامرة الأمريكية الكبرى الى نحور طابخيها ومنفذيها مهما كانت أستارهم وعناوينهم وأدواتهم.!! Comment *