كثر اللغط، منذ أشهر عدة، حول مزاعم بأن الفلسطينيين عمدوا إلى شراء أراض في سيناء، وأن أساس المشاكل الأمنية هناك هي الأنفاق بين رفح المصرية وقطاع غزة. دون أن تجد هذه المزاعم من يتصدى لها. حتى أن لواءً سابقاً في الجيش، دعا في ندوة (نقابة الصحفيين 8/11) إلى التصدي بحزم لكل من "حماس" وإسرائيل! فما الحقيقة في هذا كله؟! جاء حين من الدهر عقدت فيه الحكومة المصرية اتفاقاً مع الإدارة الأمريكية (يونيو 1953) قضي بتوطين اللاجئين المقيمين في مصر وقطاع غزة في منطقة بشمال غرب سيناء، وحمل المشروع اسم "مشروع سيناء"، وجاء في سياق المحاولات الأمريكية الدؤوبة لتوطين اللاجئين الفلسطينيين، وصولاً إلى طي قضيتهم الوطنية مرة وإلى البد. وجاء في هذا السياق "مشروع الجزيرة" في سوريا، ومشروع جونستون" في الأردن. وضغطت إسرائيل بجملة من الاعتداءات العسكرية على مخيمات اللاجئين في قطاع غزة، لإجبار سكان تلك المخيمات على القبول بمشروع سيناء، والإفلات من جحيم تلك الاعتداءات. ووصلت تلك الاعتداءات ذروتها في الاعتداء المسلح الذي شنته الوحدة 101 في الجيش الإسرائيلي، بقيادة مجرم الحرب، أرئيل شارون (28/2/1955)، على بئر الصفا، في ضواحي مدينة غزة، وذهب ضحيته 39 جندياً مصرياً وفلسطينياً. وفي اليوم التالي اندلعت مظاهرات حاشدة من أقصى قطاع غزة إلى أقصاه، وكان الهتاف الرئيسي للمتظاهرين: "لا توطين ولا إسكان يا عملاء الأمريكان"! في مساء اليوم نفسه، كان الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، يتناول عشاءه على مائدة السفير الأمريكي الجديد في القاهرة، هنري بايرود، وألح عبد الناصر على بايرود كي تمد واشنطن مصر بالسلاح، وقد بح صوت القاهرة في طلبه، منذ اكثر من سنتين، دون أن يجد آذاناً صاغية في البيت الأبيض. وكان واضحاً أن صبر عبد الناصر قد أوشك على النفاذ. وحين عاد إلى منزله أبلغ، هاتفياً، بأمر الاعتداء الإسرائيلي على غزة، وفي اليوم التالي تدفقت الأنباء من قطاع غزة عن الانتفاضة وشعاراتها المعادية للحكم في القاهرة. في اليوم الثالث للانتفاضة، طلب حاكم غزة الإداري، البكباشي (المقدم) سعد حمزة، إلى المنتفضين إرسال لجنة تمثلهم للقائه، وتشكلت اللجنة من ثلاثة أعضاء، هم: معن بسيسو (عن الشيوعي)، وفتحي البلعاوي (عن الإخوان)،وجمال الصوراني (عن المستقلين). وقدمت اللجنة مطالب الانتفاضة إلى حمزة، وفي مقدمتها إلغاء "مشروع سيناء"، وإشاعة الحريات في القطاع، وتسليحه وتحصينه. عصر اليوم نفسه أبلغ حمزة اللجنة موافقة عبد الناصر على كل مطالب الانتفاضة. وسقط "مشروع سيناء" ومع كل مشاريع توطين اللاجئين الفلسطينيين، لتطل برأسها هذه الأيام، من جديد. خمسة عشر عاماً متصلة ظلت سيناء متاحة مباحة لأبناء قطاع غزة، أي طوال الاحتلال الإسرائيلي لسيناء والقطاع (1967 1982)، ومع كل هذه السنوات لم نر فلسطينياً واحداً ينتقل من القطاع الخصب غلى سيناء الجرداء. حتى حين اقتحم أهالي القطاع العوائق على الحدود، وتجاوزوها إلى قلب سيناء (23/1/2008)، فإنهم حرصوا على شراء ما يحتاجونه وعادوا من حيث أتوا، ولم يبق منهم أحد في سيناء، وإن اكتشفوا لاحقاً بأن اجهزة أمن مبارك اختارت من بينهم من توسمت فيه معرفة الموقع الذي أخفت فيه "حماس" الأسير الإسرائيلي الشهير، جلعاد شاليط، وعرضت تلك الأجهزة من اختارتهم لتعذيب بشع، ونجحت في معرفة مكان شاليط، وأبلغته لإسرائيل كما سبق لمبارك أن وعدها وفي فجر اليوم التالي تم إنزال قوات مظليين إسرائيلية على الموقع في مخيم النصيرات. لكن "حماس" كانت قد نقلت الأسير إلى موقع آخر! مع هذا كله، فإن لدى إسرائيل مشروع سيناء، جديد، لا ذنب لأي من الطرفين الفلسطيني والمصري فيه. أما الجماعات التكفيرية في سيناء، فذنبها في عنق نظام مبارك، الذي أهمل بناء سيناء، وتنميتها، وتقديم الخدمات لأهلها، مكتفياً بقمعهم، ما خصب الأرض للتكفيريين، أي أن الاتفاق بين غزة ورفح ليست السبب. وحتى هذه الأنفاق، فإنها ستفقد مبرر وجودها، بمجرد فتح معبر رفح للأفراد والبضائع، والكف عن إكمال حصار أهل القطاع، مع الحصار الإسرائيلي!. Comment *