لا يهدأ خصوم الحقيقة والإنصاف والموضوعية، ولا يتوقفون لحظة عن نشر أكاذيبهم، والترويج لأباطيلهم. لا يكفون عن القول: إن جمال عبد الناصر والناصرية ويوليو ليس إلا صورة من صور الانقلاب العسكري، والحكم العسكري، أو "حكم العسكر"!. الغريب أن أعظم من في تاريخنا المصري الحديث، السياسي والثوري، من قامات ورموز مضيئة، هم من (العسكر)، إذا تورطنا وأخطأنا باستعمال تعبير "العسكر"، الذي ينطوي فيما يبدو على شئ من الخفة والاستخفاف، وشئ من الغرض والاستهداف، وشئ من الفجاجة والاسفاف!. وتجد من يتحدث بهذه الغلظة وذلك التعالي، بنبرة يسارية أحياناً، أو ليبرالية أحياناً، أو "دينية" أحياناً، وفي كل الأحوال تهكمية، حانقة مغتاظة!.. يتحدث عن "حكم العسكر" الذي بدأ بجمال عبد الناصر، أو على حد تعبير عبد المنعم ابو الفتوح في مداخلته في إحدى حلقتي قناة (سي بي سي) الشهيرتين الرائعتين مع حمدين صباحي قبيل انتخابات رئاسة الجمهورية، التي ترشح كلاهما فيها (مايو 2012)، قائلاً بما تصور أن فيه إحراج لمنافسه: "ألا تجد مشكلة في أنك تنتمي إلى تيار جمال عبد الناصر الذي وضع أساس حكم العسكر وصيغته عام 52؟!". ثم إذ بنفس هؤلاء، يتحدثون عند ذكر محمد علي أو ابنه إبراهيم باشا، بتقدير وإعزاز وربما بتعظيم، متجاهلين ولا نقول جاهلين أن هؤلاء، كانوا أيضاً بتعبيرهم "عسكر"، بل "حكم عسكر"!. وكذلك إذا نظروا إلى الخارج، وجاء ذكر الفرنسي "شارل ديجول" أو الأمريكي "أيزنهاور" وغيرهما.. تحدثوا عنهم باعتداد وربما بإكبار وتبجيل!. متجاهلين وأيضاً جاهلين أن هؤلاء بدورهم، وفق تعبيرهم: "عسكر"، بل و"حكم عسكر"!. لكنهم يأتون عند "جمال عبد الناصر"، وعند ذكره، وحده، ويركزون على أنه "عسكر".. و"حكم عسكر".. بل هو على حد تعبير أبو الفتوح "واضع أساس وصيغة حكم العسكر في مصر"!. ولو اتسق هؤلاء أكثر مع أنفسهم ولا داعي لأن نقول حتى "مع مغالطاتهم"! لقالوا أن "حكم العسكر" (بتعبيرهم)، بدأ في مصر من "محمد علي وإبراهيم باشا"، وليس من "جمال عبد الناصر"... ولما ركزوا على المقولة الخائبة في أعقاب ثورة 25 يناير 2011 أنه "بدأ منذ ستين سنة"، بل لانتبهوا أنه هكذا "بدأ منذ مائتي سنة"!. لكنه الغرض والضلال. والضلال هنا خطير، والغرض هكذا مرض.. إلى حد الاختلال!. وهو الخبث.. المكشوف أو الفاضح، فقد تصور هؤلاء، من منطلقات أيدلوجية أو "مفاهيمية" مختلفة، أنه قد حانت فرصتهم، وجاء الأوان بعد قيام ثورة 25 يناير 2011، للانقضاض باسم أنها ثورة شعب، على جمال عبد الناصر، وكل ما يمثله تحت ترديد ضحل، لا يتوقفون عنه لحظة: "بأن ما يطلق عليه ثورة 23 يوليو 1952 بقيادة جمال عبد الناصر لم يكن إلا مجرد انقلاب جيش"!. وقد يتصور بعضهم أنه يتفضل، وأنه قد أصبح موضوعياً بالفعل، حين يستكمل فيقول: إنه انقلاب جيش.. سانده الشعب، وبدأ او بدا واعداً.. لكنه لم يلبث أن أطاح بكل مؤسسات الشعب وكل طاقات الشعب وكل حريات الشعب، وحكم حكماً فوقياً.. لم لا؟.. أليس "حكم العسكر!". كأنه كانت هناك حريات حقاً قبل 23 يوليو 1952، لشعب يحتل دولته ويسيطر على القرار السياسي فيها الاستعمار البريطاني منذ سبعة عقود بالتمام عند قيام الثورة (منذ عام 1882)!. وكأنه كانت هناك مؤسسات للشعب حقاً قبل 23 يوليو 1952.. وينسون أو يتناسون مثلاً: أن "نقابة العمال" كان يرأسها أحد باشوات العهد الملكي من كبار الملاك!. وهكذا لديهم: (فإن ثورة يوليو.. هي انقلاب جيش سانده الشعب.. لكنه في النهاية مجرد انقلاب عسكر، تنكر للشعب، وغدر..)!. مضيفين في غزل كاذب لثورة 25 يناير: (بينما ثورة 25 يناير ثورة شعب ساندها الجيش..)!. ثم ها هم وجدوا فرصة في الأداء الهزيل للمجلس العسكري، بل المغرض (والمدان في بعض المواقع والمواقف كمسئول عن دم شهداء أبرار جدد)، خلال إدارة المجلس السياسية للمرحلة الانتقالية ما بعد قيام ثورة 25 يناير 2011. وهنا هتفوا وصرخوا: (انظروا!.. ألم نقل لكم!.. هذا هو حكم العسكر.. هذا هو الحكم الذي ساد البلاد واستبد بها منذ ستين عاماً.. هذه هي نوعية الحكم التي أسسها جمال عبد الناصر منذ 1952، العام والانقلاب الذي قطع على مصر تطورها الطبيعي الديمقراطي الليبرالي وطريقها إلى النهضة.. ولولاه لكنا الآن في مصاف الدول الكبرى)!. * وعبثاً تحاول أن تقول لهم مثلاً: إن المجلس العسكري ما بعد ثورة 25 يناير 2011، ليس امتداداً لمجلس قيادة ثورة 23 يوليو 1952، بأي مقياس أو على أي أساس!... بل هو القمة على رأس المؤسسة العسكرية في عهد مبارك، وأن بعض أعضائه ومنهم رئيس المجلس (المشير حسين طنطاوي) استمروا في مواقعهم ما يقارب العشرين سنة، أي معظم سنوات ذلك العهد (وهو بالتمام ثلاثون سنة)... وأنه من الطبيعي، بل البديهي الوحيد، أن يضمن نظام فاسد مستبد لدولة بوليسية، كنظام ودولة مبارك، ولاء أهم وأخطر مؤسسة فيه، يمكن أن تطيح به في اية لحظة لو أرادت، وهي مؤسسة الجيش، بأن يضع في قمته عناصر موالية، على شاكلته بالتمام، من نفس العينة و"العجينة"، تفكر بنفس الطريقة، قابلة للتلوث أو الفساد مثله، على الأقل من خلال مؤسسات الجيش الاقتصادية ودولة مصالح جديدة واسعة، نشأت ونمت في الجيش داخل الدولة، بالذات في هذا العهد!. * وعبثاً تحاول أن تقول لهم مثلاً: إن مؤسسة القوات المسلحة في مصر، كما في أي بلد، مثلها ككل المؤسسات بما فيها مؤسسة القضاء ذاتها في مصر، كما في كل بلد، تتضمن دائماً شرفاء ومتجردين ومثاليين، كما يمكن أن تتضمن في أي وقت ضعفاء نفوس وفاسدين وضالين!. وفي رجال العسكرية المصرية مثلاً، هل يمكن أن يكون هناك خلاف على شرف وتجرد وشجاعة، وروعة دور وأداء أسماء، لنذكر بعضها هنا.. (وحتى بعيداً عن "جمال عبد الناصر" وذكره.. الذي يبدو أنه يصيبهم دائماً ب "أرتكاريا"، أو حساسية قاسية لا شفاء منها!.. مع أنه في أية رؤية موضوعية منصفة في مقدمة وأول هؤلاء الشرفاء الأجلاء): من إبراهيم باشا بكل قيمته الإنسانية وقيمته العسكرية الاستثنائية إلى أحمد عرابي ومحمد عبيد ومن معهما من أبطال الجيش المصري في خضم الثورة العرابية وملحمتها إلى أحمد عبد العزيز (ورفقائه أبطال جيش المصري في حرب فلسطين عام 1948 في الفالوجة وغيرها.. واستثنوا منهم مرة أخرى جمال عبد الناصر إذا أردتم (من أجل الأرتيكاريا.. أو الفوبيا!) وصولاً إلى كمال رفعت (ورفقائه في معارك التحرير وعمليات المقاومة والفدائيين الباسلة ضد قوات الاحتلال البريطاني في منطقة القناة في أعقاب قيام ثورة يوليو 1952، مواكبة مفاوضات الجلاء بقيادة جمال عبد الناصر حتى تحقيق الجلاء بعد مدة وجيزة من قيام الثورة في 18 يونيو 1954.. ام لنقل: لا داعي لذكر كمال رفعت هنا، لأن لذلك علاقة "بجمال عبد الناصر".. نسينا الأرتيكاريا والفوبيا!). وصولاً إلى عبد المنعم رياض وإبراهيم الرفاعي وسعد الدين الشاذلي.. ومئات وآلاف البطال والشهداء، الذين منحوا جهدهم وعلمهم وحياتهم، برضا كامل فداء للوطن والشعب ومثله العليا. هذه المؤسسة العسكرية.. هي ذاتها التي تضمنت آخرين، من الفاسدين وحتى المعادين لمصالح أوطانهم، أو لم يتصدر أول بيان للضباط الأحرار صباح 23 يوليو 1952، أننا إنما قمنا بحركتنا أولاً "لتطهير" أنفسنا وجيشنا من الفاسدين فيه؟!.. ولماذا نذهب بعيداً؟... أو لم يكن من بين المنتمين للجيش ومؤسسته، أنور السادات، الذي غدر بالشعب ومصالحه، وبخط 23 يوليو وطنياً واجتماعياً، وقد وصف الشعب السادات الوصف المشهور، البسيط بقدر ما هو يجمل وفي غاية الدقة: "بأنه يمشي على خط الثورة بالفعل كما يقول، لكن بأستيكة"!.. أي "ممحاة" تمحو محواً! وليس هناك أقسى ولا أقوى وأصح من هذا الوصف المدهش، الذي يساوي محاولات أية ردة أو ثورة مضادة. ولماذا نذهب بعيداً أيضاً... أو لم يكن من بين المنتمين للجيش ومؤسسته، حسني مبارك، الذي كرس عبر ثلاثة عقود، ما أسس السادات على مدى عقد، من دولة بوليسية (أي تعتمد على قوة البوليس وليس حتى قوة الجيش.. لذلك فلم يكن حتى حكم أي منهما في الحقيقة حكماً عسكرياً بالمفهوم التقليدي والمعنى المتعارف عليه بقدر ما كان بوليسياً على نحو ربما فاق أي نظام بوليسي آخر في زمانه)، وإلى جانب الاستبداد المطلق، فساد لا تحده حدود، غرسه السادات، هيأ له التربة والبيئة والبذور وكل شئ وعلى الخصوص منذ عام 1974، بقوانين ما سمي "الانفتاح" وما هو إلا فتح الباب على مصراعيه لعودة الرأسمالية واستغلالها واحتكاراتها و"سيطرتها على الحكم" (بتعبير المبادئ الستة المشهورة فجر عصر 23 يوليو، حيث كان أحد الأهداف الستة القضاء على ذلك ضمن ما ينبغي التخلص منه)، بل عادت الرأسمالية وسيطرتها على الحكم في أكثر الصور بدائية أو بالأحرى وحشية، وقد وصفت آنذاك بأنها "الرأسمالية الطفيلية"، وبأن رجالها المليونيرات الجدد "القطط السمان". لكن تلك "القطط" في عقود مبارك الثلاثة تحولت إلى حيتان وديناصورات، ووحوش كانت أفعالها بلا وازع ولا رادع ولا سقف، فإلى جانب نظام الدولة البوليسية بكل معنى الكلمة، هو حكم عصابات لصوص ومافيا بكل جوهر الكلمة. هذان الحاكمان (السادات مبارك) قدما من الجيش، ومعهم ومن حولهم، فاسدون ومفسدون بشعون قدموا من الجيش... وكذلك فإن من ذكرنا قبلهم، من شرفاء ونبلاء وفرسان ضحوا بكل شئ وحتى بأرواحهم من أجل الوطن والشعب والقيم الرفيعة، هم أيضاً قدموا من الجيش!. لا توجد مؤسسة (عسكرية، أو قضائية، أو دبلوماسية، أو تعليمية.. أو في أي مجال، في مصر ولا في أي مكان).. إلا ويوجد فيها هذا اللونان أو المعدنان، النفيس والرخيص، الشريف والخسيس... وإن اختلفت النسب والأوزان، من لحظة إلى لحظة، من عصر إلى عصر، ومن مناخ إلى مناخ.. أليس كذلك؟. Comment *