الخلط بين المصطلحات يحمل الكثير من اللبس الذى يعلم المطلعون على الفكر السياسى الغربى أنه غير صحيح. فالديمقراطية ظهرت قبل 2500 سنة، والليبرالية تنسب إلى الفيلسوف البريطانى جون ستيورت ميل فى القرن التاسع عشر لعلاج مشكلة الأقليات السياسية والدينية (التى بدأت تضار من ديكتاتورية الأغلبية)، ولعلاج مشكلة الفقراء (الذين أضيروا من توحش رأسمالية آدم سميث، فكان الحل تدخل الدولة لصالح هذه الطبقات، مثلما فصل جون ستيورت ميل فى كتابه «مبادئ الاقتصادى السياسى» الصادر فى نفس السنة التى صدر فيها إعلان ماركس الناقد للرأسمالية تحت عنوان «المانيفستو الشيوعى». أما العلمانية فهى مصطلح تم صكه فى القرن التاسع على يد جورج هوليوك (بريطانى ثالث) كمصطلح منحوت حديثاً تجنباً لاستخدام كلمة «دنيوى» الذى كان يجعل الأمر مفاضلة بين المقدس العالى، والدنيوى الدنىء، وكتعبير عن نتيجة صراع طويل امتد لمدة ستة قرون فى الغرب للتخلص من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية على المجتمعات الأوروبية لقرابة 1000 سنة بدءا من القرن الثامن الميلادى. والعلمانية بهذا المعنى حل عبقرى لمشكلة مزمنة عاشها الغرب، ولم يعشها المسلمون، وإن كانوا عاشوا تجربة فيها بعض ملامح التجربة الغربية، وإن لم يستدع هذا بالضرورة استنساخ الحل الأوروبى. المشكلة الغربية أن باباوات الكنيسة الكاثوليكية (مثل اربان الثانى، وجريجورى السابع، وانوسنت الثالث) أصدروا أحكاماً دينية جعلت حقوق البشر رهناً بقرارات كنسية فى كل أمور الحياة، ومن المؤشرات التى اعتمد عليها الباحثون الغربيون لمعرفة ازدهار أو انحسار حكم الكهنوات (أى حكم الكنيسة) كانت ثلاثة مؤشرات: أولاً، هل للكنيسة جيش خاص بها مواز أو بديل عن جيش المملكة (الدولة)؟ ثانيا: هل الكنيسة هى التى تسيطر على نظام التقاضى بدءاً من وضع القوانين انتهاء بإصدار الأحكام النهائية بين المتخاصمين؟ ثالثاً، هل الكنيسة تقوم بفرض ضرائب مستقلة أو بديلة عن الضرائب التى تفرضها المملكة (الدولة)؟ معظم دول أوروبا شهدت هذه السيطرة المهولة للكنيسة، لكن نجحت انجلترا تحديداً فى أن تتخلص من سيطرة الكنيسة الكاثوليكية فى روما، ولهذا لم يكن مستغرباً أن كانت إنجلترا المجتمع الأكثر حيوية فلسفياً وأدبياً وعلمياً واقتصادياً وعسكرياً مقارنة بكل أوروبا، ولكن مع ظهور البروتستانتية فى القرن السادس عشر، ثم الحروب الدينية فى القرن السابع عشر والتى مات بسببها الملايين، تنبه العقل الأوروبى إلى خطر خلط السياسة بالدين على مستويين: مستوى الحروب التى يضيع ضحيتها الآلاف وربما الملايين بسبب قرار من أحد آباء الكنيسة، ومستوى غياب الحريات السياسية وعلى رأسها الحقوق الديمقراطية (حق الأغلبية فى ألا تسمح للأقلية أن تستبد بها)، والحقوق الليبرالية (حق الآخرين، أغلبية أو أقلية، فى ألا تكون حقوقها رهناً بموافقة الأغلبية أو الطبقة المسيطرة اقتصادياً). ومن هنا ظهرت العمليات الثلاث وكأنها عملية واحدة: علمنة الكاثوليكية (بمنع الكنيسة من الاستبداد باسم الدين)،والتحول الديمقراطى (بمنع الأقلية الحاكمة من الاستبداد باسم الدولة)، والتحول الليبرالى (بمنع الأغلبية أو الطبقة المسيطرة اقتصادياً من الاستبداد باسم الأغلبية أو المصلحة الرأسمالية). نحن .. والليبرالية: الليبرالية بشكل لفظى تعنى الحرية، وبشكل سياسى تعنى حرية الفرد فى الإيمان والاعتقاد بأى فكر أو دين أو مذهب، وتتعدى إلى حرية الفرد فى فعل أى شيء طالما لم يتعدى حدود الآخرين.. وهو ما يجسده المثل المصرى المعروف (أنت حر مالم تضر) وبالتالى فإن الليبرالية لا تأبه لسلوك الفرد طالما أنه لم يخرج عن دائرته الخاصة من الحقوق والحريات، ولكنها صارمة خارج ذلك الإطار. فعلى سبيل المثال: أن تكون متفسخاً أخلاقياً، فهذا شأنك. ولكن، أن تؤذي بتفسخك الأخلاقي الآخرين بأن تثمل وتقود السيارة أو تعتدى على فتاة فى الشارع مثلاً، فذلك لا يعود شأنك. الإسلام والليبرالية: إذا انطلقنا من الآية القرأنية (لا إكراه فى الدين) وآية (لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم ان تبروهم وتقسطوا اليهم ان الله يحب المقسطين )، ثم الحديث النبوى المشهور (الناس سواسية كأسنان المشط )، وانتهاءا بتثبيت على بن أبى طالب لفكرة حقوق الإنسان وحرية الفرد عند عهده لواليه على مصر مالك الأشتر.. يقول على بن أبى طالب لواليه على مصر: (وأشعر قلبك الرحمة للرعية، والمحبّة لهم، واللطف بهم، ولا تكونن عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم ،فإنّهم صنفان : إمّا أخ لك في الدين ، أو نظير لك في الخلق ، يفرط منهم الزلل، وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطإ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك الله من عفوه وصفحه) انطلاقا من كل تلك النصوص ينتج لنا الآتى: 1- اعتنى الإسلام بحرية الفرد فى العقيدة وهو مايتفق تماماً مع مبدأ الليبرالية 2- الشريعة الإسلامية لاتحاسب الفرد على سلوكه داخل بيته، فالكذب والتفسخ الأخلاقى الفردى الذى لايضر الغير ليس له عقوبة شرعية كالرجم أو الحبس مثلاً، على عكس المفاسد الأخرى التى تضر أفراد المجتمع، فالإسلام شأنه شان القوانين الوضعية وضعت حدوداً وعقوبات لمن تعدى حريته الشخصية ونشر المفاسد فى المجتمع. 3- ربما يكون هناك محاور خلافية جزئية بين الليبرالية والإسلام، ولكن لا يعنى هذا بالكلية أن الليبرالى كافر أو خارج عن مبادئ الإسلام، فالعكس هو الصحيح، الشخص الذى لا يدعو إلى حرية الإنسان فى العقيدة و فرض الدين عليه بالقوة هو شخص لا يعرف الإسلام (وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس ويكون الرسول عليكم شهيداً...) البقرة/143 4- الحرية أو الليبرالية فى كل دولة هو حق أصيل ولكنه يتقيد بعدد من الأعراف والمفاهيم الخلقية والدينية بكل مجتمع .. فعلى سبيل المثال فى دولة مثل هولندا يسمحون بقدر كبير من الحرية لدرجة اعترافهم بالزواج المثلى (زواج الرجل بالرجل)، فى حين أن هذا مرفوض قطعا ًفى أغلب دول العالم وعلى رأسها أمريكا، لأنه يتعارض مع مبادئ الدين المسيحى والأعراف، ومن هذا المنطلق فإن ديننا الحنيف يعترض على مبادئ ليبرالية أيضاً مثل حرية بيع الخمور مثلا أو مارسة الدعارة وغيرها.. لا مشكلة فى ذلك لأنه كما أسلفنا فإن من حق أى مجتمع أن يطبق الحرية بالمفهوم الذى يتسق مع مبادئه الدينية والأخلاقية والعرفية. 5- كوفي عنان، سكرتير الأُمم المتّحدةَ السابق يصرحُ: «قول علي ابن أبي طالب يا مالك إن الناس إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق، هذه العبارة يجب أن تعلَّق على كلّ المنظمات، وهي عبارة يجب أن تنشدها البشرية» “The words of Ali ibn Abi Talib, ‘O Malik! The people are either brothers in religion or your equal in creation' must be adhered to by all organisations and it is a statement that all humanity must embrace وبعد أشهر اقترح (عنان) أن تكون هناك مداولة قانونية حول( هذا المقال). اللجنة القانونية في الأممالمتحدة، بعد مدارسات طويلة، طرحت: هل هذا يرشح للتصويت؟ وقد مرّت عليه مراحل ثم رُشِّح للتصويت، وصوتت عليه الدول بأنه أحد مصادر التشريع الدولي.