حين يُذكر اسم الإمام محمود شلتوت تُذكر جهوده في إصلاح الأزهر، ودوره في التقريب بين السنة والشيعة الأمامية.. وُلد الإمام عام 1893م بقرية منية بني منصور مركز إيتاي البارود بمحافظة البحيرة، وقد حفظ القرآن الكريم في صباه، ثم التحق بالمعهد الديني بالإسكندرية، وكان الأول على زملائه طوال فترة الدراسة، وفي عام 1918م حصل على شهادة العالمية (تعادل الماجستير)، وعُين مدرساً بمعهد الإسكندرية الديني في أوائل عام 1919م، وفي العام نفسه قامت الثورة على الاحتلال البريطاني فشارك فيها بقوة، ولما عُين الإمام محمد مصطفى المراغي شيخاً للأزهر، نقل الشيخ شلتوت مدرساً للفقه الإسلامي بالقسم العالي بالأزهر، وكان المراغي يقود حركة لإصلاح نظام الأزهر الشريف، وكان شلتوت من مؤيديها، وقد كتب عدة مقالات في جريدة"السياسة القومية" يدعو فيها للأخذ بالمبادئ التي دعا إليها الإمام المراغي في مذكرته لإصلاح الأزهر. وبعد استقالة المراغي عام 1929م فُصل الشيخ شلتوت ضمن عشرات من مؤيدي الإمام وحركته الإصلاحية، فعمل بالمحاماة أربع سنوات، ثم عاد للأزهر مدرساً بكلية الشريعة ثم وكيلاً لها، وذلك بعد أن رضخ الملك فؤاد لضغوط العلماء وأعاد المراغي لإمامة الأزهر. وفي عام 1941م نال شلتوت عضوية "جماعة كبار العلماء" بالإجماع إثر تقديم رسالته عن "المسئولية المدنية والجنائية في الشريعة الإسلامية"، وفي عام 1946م عُين عضواً في مجمع اللغة العربية، وانتدبته جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة) لتدريس فقه القرآن والسنة لطلبة دبلومة الشريعة الإسلامية بكلية الحقوق، وفي سنة 1950م عُين مراقباً عاماً للبحوث والثقافة الإسلامية بالأزهر، ثم عُين مستشاراً للمؤتمر الإسلامي، وعضواً في اللجنة العليا للعلاقات الثقافية الخارجية ووكيلاً للأزهر عام 1957م، وفي العام التالي اختيراً شيخاً للأزهر وبقي بالمشيخة حتى استقال منها في أغسطس 1963م إثر خلاف مع الوزير المختص بشئون الأزهر، وفي نهاية العام نفسه لقي ربه. كانت قضية إصلاح الأزهر من القضايا التي حملها الشيخ شلتوت على عاتقه طيلة حياته الوظيفية، وقد تعرض للفصل من عمله بسببها في فترة الإمامة الأولى للشيخ المراغي، كما ذكرنا، وفي عام 1941م بعد اختياره عضواً في جماعة كبار العلماء تقدم بمشروع لتطوير تلك الهيئة، لمواكبة احتياجات العصر، ورغم الترحيب بالمشروع، فإنه لم يخرج للنور كما أراده صاحبه، واقتصر تنفيذه على بعض التفاصيل الشكلية، وهو ما جعله يعيد تنفيذه حين تولى مشيخة الأزهر، ليخرج "مجمع البحوث العلمية" للنور. من الإنجازات التي تحسب للشيخ شلتوت، إدخال اللغات الأوربية في مناهج التعليم بالأزهر وجعلها مادة أساسية وذلك عام 1958م، وإدخال "الفقه المقارن بين المذاهب الإسلامية" في مناهج الأزهر في نهاية عام 1959م، وقد كان الشيخ شلتوت من أول الداعين لذلك، وقد التزم بذلك في فترة تدريسه في كلية الشريعة، وأصدر كتاباً في هذا المجال. وفي عام 1961م، وبجهد كبير من الشيخ شلتوت، صدر قانون إصلاح الأزهر، الذي أضاف التخصصات العلمية (الطب، والهندسة، والإدارة، والزراعة) لكليات الأزهر، وسمح للفتيات بالدراسة في الأزهر لأول مرة في تاريخه، وأنشأ "مجمع البحوث الإسلامية"، كأول مجمع فقهي يضم كل المذاهب الإسلامية في التاريخ الإسلامي. أما عن جهود الشيخ في التقريب بين السنة والشيعة، كمدخل لعودة الوحدة الإسلامية، فقد حرص كما قلنا على إدخال الفقه المقارن في مناهج الأزهر، وهو ما يعني دراسة المذهب الفقهي للأمامية الاثنا عشرية، وكان في تدريسه للفقه المقارن حريصاً على إيراد آراء المذهب الشيعي، ولا يتردد في ترجيحها إن كان دليلها أقوى، كما شارك مع مجموعة من كبار علماء الشيعة والسنة في مصر وإيران بتأسيس دار للتقريب بين المذاهب الإسلامية بالقاهرة عام 1948م، وكان من الكتاب الدائمين بمجلة "رسالة الإسلام" التي بدأت الدار في إصدارها منذ عام 1949م، وسعى لإعداد مؤلف يتضمن الأحاديث النبوية الصحيحة المشتركة بين السنة والشيعة، وظل حتى وفاته عضواً بارزاً في أنشطة دار التقريب وبرامجها. بيد أن الجهد الأكبر والأشهر للشيخ شلتوت في هذه القضية، هو فتواه الشهيرة بجواز التعبد بمذهب الإمامية الاثنا عشرية كسائر مذاهب أهل السنة، فقد كان رحمه الله يؤمن بأن الخلاف بين السنة والشيعة خلاف في الفروع الفقهية لا في الأصول العقدية، وبأنه خلاف سياسي في أصله وفي حقيقته، لذا فمن الجائز للمسلم أن يتبع في العبادات والمعاملات أياً من مذاهب أهل السنة الأربعة المشهورة، أو المذهب الإمامي، فكلها لها مناهجها وأدلتها العلمية الملتزمة بالأصول العلمية. وقد تسببت هذه الفتوى في توجيه النقد والاتهامات للشيخ في عقيدته ممن يرون الإمامية خارجين عن المنهج الشرعي في الاعتقاد والاستنباط الفقهي، بينما رحب بها المؤمنون بضرورة التقريب بين السنة والشيعة واعتبروها خطوة شديدة الأهمية في هذا السبيل!! وفي كل الأحوال لا تزال الفتوى لليوم من أهم الفتاوى وأبرزها في قضية التقريب، ولا يزال الشيخ شلتوت من أهم علماء أهل السنة الذين خدموا تلك القضية وأخلصوا لها. Comment *