قلت في نهاية المقال السابق إنني سأتحدث هذا الأسبوع عن جحافل المبرراتية الذين ابتلانا الله بهم ليطوفوا حول كل حاكم يتولّى حكم مصر، ليزيّنوا له سوء عمله، أو ليبالغوا في إبراز مزايا جميل عمله حتى يظن أنه المنزّه عن كل خطأ، بينما يكملون هم جميلهم معه – برضاه أو بغير رضاه – بأكل لحم كل معارض له مهما كان تاريخ هذا المعارض ناصعا وشريفا وسبّاقا في الدفاع عن الحق وقت أن كانوا هم في جحورهم أو في غيّهم يعمهون. خصّص الله عز وجل سورة التوبة تقريبا لفضح المنافقين والحديث عن خصائصهم وأفعالهم وبشرهم بعذاب أليم وقال فيهم {الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} الأية 67. بل وهناك سورة كاملة باسم "المنافقون". وأظن أن المنافقين بكل صورهم وأشكالهم هم السبب الرئيسي في التخلّف الذي أصاب الأمة الإسلامية وجعلها في مؤخرة الأمم وهي التي كانت تقود الحضارة الإنسانية في يوم من الأيام وقت أن كانت أوروبا غارقة في عصورها المظلمة بسبب المنافقين أيضا الذين ارتدوا زي الكهنة طمعا في المال والسلطة وترسيخا كاذبا في أذهان العامة أنهم بذلك إنما يكسبونهم الدنيا والآخرة معا، وماكانوا إلا يكذبون. ولم تقم لأوروبا قائمة إلا حين استفاق المجتمع من غيّه فانقلب على منافقيه الذين خلطوا الدين بالدنيا والدين بالعلم ليس من باب التقوى وإنما من باب النفاق، مدّعين على الدين ما ليس فيه فكان أن خسروا الدين والدنيا معا. أما "المبرراتية" منافقو هذا العصر فهم متواجدون طوال تاريخ مصر والعرب والعالم أجمع، ولكن التقدّم التكنولوجي حاليا سلّح جيوشهم بأسلحة لم تكن تحلم بها، كالموبايل والكمبيوتر والإنترنت والفيسبوك، وأهم سلاح تستخدمه هذه الجيوش حاليا هو سلاح "كوبي – بيست" أينعم "قص ولصق"، فجنود المبرراتية لا يفكرون بل ينتظرون ما سوف يقوله قادتهم ثم ينسخونه ثم ينقلونه إلى المواقع الإلكترونية ومواقع الصحف والصفحات "الفيسبوكية"، لتجد في دقائق الفضاء الإلكتروني وقد اكتسى بالتبرير، وحينها ستعرف حقا ما معنى الاستنساخ وخطورته الحقيقية. و"المبرراتية" اتخذوا صورا عدة عبر التاريخ، فمنهم سحرة فرعون الذين زينوا له سوء عمله، ومنهم حاشية السلطان الظالم ووزرائه وعلمائه الذين يخشون في الحق لومة لائم فلم يقولوا كلمة حق في وجه الجائر، فارتدوا زيّ الكهّان ورجال الدين، ومنهم الشعراء وكانوا من أشهر "مبرراتية" عصورهم، وهم الذين كانوا يمجّدون السلطان أي سلطان ويبررون له مساوئه وقراراته الخاطئة، حتى إذا ذهبوا إلى غيره أمطروه بمدحهم وأهالوا التراب على سابقه الذي كانوا يمدحونه قبل حين، ومع الوقت اتخذ "المبرراتية" أشكالا عدة فأصبح منهم الإعلاميين والصحفيين والمفكرين والسياسيين وغيرهم من عبيد الكراسي. فئة "المبرراتية" من المنافقين الذين أصبحوا بالملايين هم أحفاد السفسطائيين الإغريق بجدارة واستحقاق، فهم على استعداد لقول الشيء ونقيضه وإثبات الشيئين دفاعا عن ولي نعمتهم أو من يعتنقون فكره في الحق والباطل، بل كان للسفسطة هدف نبيل في بدايتها حين ظهر السفسطائيون كممثلين للشعب وحاملين لفكره وحرية منطقه ومذهبه العقلي، وهو ما كلّفهم كل ما تعرضوا له من تنكيل ونفي وقتل لأنهم كانوا يخدمون مصلحة الضعفاء والمساكين، فقُتل أغلب قادتهم وشُرّد الباقون. ومع الوقت وبعد أن كان وصف السفسطائي في الأصل وصف مدح أصبح قول سفسطة يعنى بها الكلام الذي فيه تمويه للحقائق مع فساد في المنطق مع صرف الذهن أيضا عن الحقائق والأحوال الصحيحة أو المقبولة في العقل وتضليل الخصم عن الوجهة الصحيحة في التفكير. وهو ما تفعله جيوش "المبرراتية" حاليا كما كانت تفعل طوال العصور. "مبرراتية" العصر الجديد ليس شرطا أن يكونوا من جماعة السلطان أو من أسرته الحاكمة أو حتى من المستفيدين منه بأي شكل من الأشكال، فمنهم من لا يتقاضون أجرا نظير قيامهم بواجبهم التبريري المقدس، وإنما يفعلون ذلك لمجرد التأكيد على قناعاتهم ووجهات نظرهم التي أبدوها سابقا في شخص ما أو جماعة أو قضية، وحين يرون خطأ ما كانوا مقتنعين به يخجلون من الاعتراف بأخطائهم فتراهم يستمرون في الدفاع والتبرير حتى آخر حرف في اللغة، وليس مهما أن يقولوا أشياء متناقضة بل المهم عندهم أن ينصروا ما اختاروه أو من اختاروه ظالما أو مظلوما ليس على الطريقة المحمدية المحمودة بأن يردّوه عن ظلمه بل على طريقة المنافقين بأن يثبتوا له زورا وبهتانا أنه لا يقول ولا يقرر إلا الحق. ولأننا قمنا بثورة عظيمة كان من المفترض أن تُسقط نظاما ظالما فاسدا وسّع من دائرة المستفيدين والخائفين والمرتعشين والمنافقين إلى أوسع مدى، فشل القائمون على الثورة في أن يتحدّوا خلف راية واحدة فركب ثورتهم الجاهزون المنظمون، وحين ركب الراكبون اكتشفوا أن ما من نظام أفضل من هذا النظام الفاسد السابق يمكن أن يضمنوا به الاستمرار في السلطة، فاتبعوا الطريقة نفسها وفتحوا أذرعهم للمنافقين "المبرراتية" عبيد السلاطين ومنحوهم العطايا ووضعوهم على رؤوس المؤسسات الإعلامية التي طالما نادى الراكبون على الثورة بتطهيرها سابقا، ولكن مفهومهم عن التطهير لم يكن بتغيير القوانين والآليات الفاسدة التي تسمح بالنفاق وإنما كان فقط بتغيير الوجوه ووضع من يضمنون ولاءه مهما كان تاريخ فساده السابق. والنتيجة أن اختار السلطان الجديد جلادي الثوّار حراسا شخصيين له، ولو نطقت ألسنة الشهداء ودماءهم التي وضعت السلطان الجديد على كرسيه لتصرخ من الظلم الذي حاق بالشهداء في حياتهم ومماتهم لأخرج لها "المبرراتية" ألسنتهم وقالوا وهل كنتم تقدرون على أن تطالبوا بحقوقكم في عهد السلطان السابق؟! لعنكم الله أينما كنتم في كل زمان ومكان. [email protected] Comment *