يرى الكثير أن القضية الفلسطينية صارت عبئا على مصر وصُداعا في الرأس من حين إلى آخر، وأن مصر أصبحت لا تمتلك الرفاهية لحل مشاكل الآخرين، فالأولوية هي لقضاياها الداخلية من فقرٍ و جهلٍ و تطرفٍ و بطالةٍ... إلخ، فلم يعد لفلسطين – القضية الأم- حظ أو نصيب من الاهتمام لدى كثير من النخب والسياسيين في مصر، سواء كان عن متعمدًا أو جاهل بالقضية، وبالتالي ينعكس هذا الوعي على كاهل المواطن البسيط الساعي لسد رمقه؛ لكن الأمر في حقيقته على النقيض تماما، فالقضية الفلسطينية والصراع مع الصهاينة يخص مصر بالأساس لما له من أثر كبير على مشاكلنا الداخلية والخارجية، فإذا تفحصنا الماضي أو الحاضر سنجد ألف شاهد وشاهدٍ. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قول الجنرال والباحث الصهيونى شلومو جازيت، رئيس الاستخبارات العسكرية الإسرائيلية سابقًا ل يديعوت أحرونوت، فى إبريل عام 1992، حين انهار الاتحاد السوفييتى وثار الجدل حول الأولويات لهذا الكيان الصهيوني ودوره في المنطقة "إن مهمة إسرائيل الأولى لم تتغير مع ذلك الحدث وستبقى على نفس درجتها من الأهمية، فموقع إسرائيل في قلب الشرق الأوسط العربي والإسلامي يميز إسرائيل، بجانب التحكم في الاستقرار لدول الإقليم، والحفاظ على النظام الدولي القائم، والحيلولة دون ظهور توجهات قومية ثورية في العالم العربي، وقطع الطريق على ظهور حركات إسلامية أصولية". وبالتمعن في هذه الأهداف بدقة نجد أن مهمة هذا الكيان بالأساس هو الحفاظ على مصالح بعض القوى العظمى مثل أمريكا وحلفائها، بالإضافة إلى استمرارية قيم هذا النظام العالمي الفاسد والظالم الذي لا يعرف عن الحق إلا القوة، ليجعل من الآخرين كيانات ضعيفة وتابعة وخاضعة له سياسيًا واقتصاديًا وعسكريًا، واستنزاف الكيانات المعارضة لها وبالتالي يترتب على ذلك أن تكون النهضات الموعود بها تلك الشعوب ما هي إلا سراب، فالنهضة الحقيقية تتحقق بالخروج أولًا من التبعية الاقتصادية وأن تكون دولة قادرة على استغلال مواردها لا تعيش على المعونات الخارجية المشروطة. فالتبعية الاقتصادية تتبعها سياسية تؤثر على قراراتها بل يصل الأمر إلى تفكيكها وإشغالها في صراعات مذهبية وسياسية لإضعافها وتشتيتها، فالعلاقة بين نهضتنا وبقاء الكيان الصهيوني هي علاقة عكسية فصعود طرف يعني بشكل مباشر الهبوط السريع للآخر، أما الاحتمال بصعود طرف مع ثبات الآخر فهو أمر محال وإن حدث فذلك الصعود وهمي وشكلي بل قد يمثل هبوطًا من زاوية مختلفة وأكثر عمقًا، فتتطور مصر وغيرها يبدأ بأن تعرف عدوك المهيمن على المنطقة بشتى المجالات ونكون واعين لوظيفة إسرائيل الأولي وهي التحكم في استقرار المنطقة. لذلك وجب علينا الخروج من تلك التبعية والهيمنة، فواهم هو من يعتقد أنه سيبني بلاده بمعونات من حلفاء أمريكا أو من البنك الدولي فلن يدعمونا من أجل أن نكون مستقلين في قرارتنا السياسية والاقتصادية عنهم، فهذا بخصوص الوظيفة الأولى التي تحدث عنها شلومو جازيت، وخير دليل على ذلك "القدس". أما الوظيفة الثانية وهي الحفاظ علي النظام الدولي القائم ومواجهة أي قوى تقاومه سواء كانت قومية أو إسلامية (الوظيفة الثالثة والرابعة)، فيوضح هذا أن إسرائيل هي بمثابة مخلب القط لأمريكا لتحقيق مصالحها في المنطقة من أجل ضمان فرض هيمنتها على المنطقة، فتشن من خلال إسرائيل حروب بالوكالة تارة وتارة من خلال قواها الناعمة بسيطرتها إعلاميًا وهيمنتها على الكثير من النخب والمثقفين والسياسيين الطوافين بالبيت الأبيض والمتمسحين والمتباركين بالرضا الأمريكي، و إليكم خير شاهد على ما أقول. دعا مجلس الأمن القومى الأمريكي في يناير عام 1958، إلى دعم إسرائيل لمعارضة المد القومي العربي؛ لأنها الدولة الوحيدة المخلصة للغرب في الشرق الأوسط، ونظر المحللون الأمريكيون إلى إسرائيل خلال عقد الستينيات كحاجز فعال أمام ضغوط الناصرية وتأثيرها المتنامي في شبه الجزيرة العربية والأردن، بجانب مساندتها في نكسة 1967، المفهوم الذي تشكل لدى الأمريكيين من أن إسرائيل قوة استراتيجية يمكنها خدمة المصالح الأمريكية عن طريق تقويضها للتصدى للقوى القومية الاستقلالية في المنطقة. وأكد هنرى جاكسون، خبير الكونجرس في شئون النفط والشرق الأوسط، في مايو 1973، على ضرورة تزايد واعتماد الولاياتالمتحدة والغرب على إيران في الخليج، وعلى إسرائيل في البحر المتوسط، وكلتاهما مع السعودية تخدمان بإخلاص مصالح الولاياتالمتحدة لمواجهة التوجهات القومية المتهورة في الدول العربية، والتي لو نجحت ستشكل تهديداً خطيراً لإمكانية وصولنا إلى مصادر الطاقة النفطية في الخليج، وهي مصادر لم تكن الولاياتالمتحدة في حاجة لها في ذلك الوقت، لكنها كانت تخزنها للاستفادة من عوائدها الضخمة ولضمان هيمنتها على قطاع الطاقة العالمى، ولم تكن الخلافات بين السعودية وإيران وإسرائيل سوى خلافات شكلية، ومع سقوط الشاه تزايد دور إسرائيل بعد أن لعبت منفردة دور الشرطي الوحيد في المنطفة. ولم تكن مفاجأة إذن تحالفت الولاياتالمتحدة وإسرائيل والسعودية بعد سقوط الشاه لمحاولة إعادة الشاه برعاية من المبعوث الأمريكي الجنرال روبرت، وعقدت الدول الثلاثة تحالفاً سرياً تقوم بموجبه السعودية بتمويل شراء الأسلحة الأمريكية عن طريق إسرائيل وإرسالها إلى عناصر في الجيش الإيراني حتى تتمكن من الإطاحة بالنظام الجديد، فأي محاولة لبناء نظام أو تحالف عربي أو إسلامي سيواجه التصادم بذلك الكيان الدخيل على المنطقة، فالصراع بيننا و بينهم هو بالأساس صراع بين أن تكون إنسانا أو لا تكون، أن تكون دولة لها احترامها أو لا تكون، فلا نهضة في ظل تبعية سياسية واقتصادية . فالبداية هي من فلسطين لذلك هي البوصلة.