"المجازر؟ إنها دواء القاتل وأزمته الأولى والأخيرة". "في" من "في للإنتقام" V for Vendetta القصة الكوميكسية لآن مور تولد المجازر في بلادنا من رحم الأحداث الكبرى. يعتقد "القاتل" بأن فعل "القتل"/"التقطيع" هو الطريقة الوحيدة لتفريغ طاقة الغضب الكامنة فيه جراء الحدث المرسل عليه. تتنوع أسباب المجازر ومسبباتها بالتأكيد ولكنها تتشابه في الوقت عينه في النتائج والأداء على الأرض. بمعنى أكثر دقة: لا فارق في أن يكون سبب المجزرة صراعاً على أرض (المجازر ضد الهنود الحمر في أميركا، والروهينغا في ميانمار)، أو خلافاً على لعبة –مهما كان صغرها- (مجازر الحدود بين الهندوراس والسلفادور بسبب مباراة للتأهل على كأس العالم)، أو انتقاماً على حدثٍ (صبرا وشاتيلا)، أو حتى تشريداً ورغبةً في خلق رعب (دير ياسين، تل الزعتر). تتعدد الأسباب بالتأكيد. الأفعال؟ تلك نظرةٌ مختلفة ومتشابهة إلى حدٍ كبير بين جميع الأفرقاء. أولاً: على القاتل أن يكون أكثر عدداً، وعلى القتيل أن يكون ضعيفاً وقابلاً للتحوّل إلى ضحية. أي بمعنى آخر، أن يكون قليل التسليح، قليل العدد، وجل مكوناته هي من غير القادرين على المقاومة أو رفض فعل "التقتيل": كالنساء والأطفال والشيوخ غير القادرين على حمل السلاح. ثانياً: ألا يمتلك القتيل (أو المرشّح لكي يكون قتيلاً) أي قيمة مرجعية لأي قوّة محلية أو إقليمية أو حتى عالمية في تلك اللحظة الزمنية (لأنه من الممكن لاحقاً أن يتحوّل ويصبح قضيةً عالمية). ثالثاً: أن تكون اللحظة التاريخية المصيرية جاهزة وحاضرة، إذ لايمكن حدوث المجزرة في أي مكانٍ هكذا وبشكلٍ عرضي؛ يجب أن تكون هناك ظروفٌ مناسبة للحدوث: غضب شعبي عارم، مزاج سياسي مؤاتٍ، أحداث مؤثرة تجلب تعاطف (مقتل زعيم محلي أدى إلى مجزرة صبرا وشاتيلا مثالاً). رابعاً: أن يكون الأمر ممهداً له قبلاً من خلال لغة اعلامية وخطابية تجعل الأمر يبدو عادياً. لاتحدث المجازر البتة دون غطاءٍ إعلامي خطابي ممنهج. فالروهينغا مثلاً لم يتعرضوا للإبادة دون خطابات شعبوية من آشين ويرثو (الراهب البوذي الذي يعتبر وجود الروهينغا –وليس المسلمين الروهينغيين فحسب- خطراً داهماً). الأمر عينه يمكن رؤيته في خطابات الشاعر اللبناني سعيد عقل الذي "مدح" القتلة الذي أدوا مجزرة صبرا وشاتيلا وطالب بتكريمهم وإعطائهم الأوسمة. الأمر الأكثر خطورةً حينما يستخدم الدين في ذلك، فاستعمل الصهاينة –تبريراً لمجازرهم ولا زالوا – نصوصاً من العهد القديم: "وَلاَ تَعْفُ عَنْهُمْ بَلِ اقْتُلْ رَجُلاً وَامْرَأَةً، طِفْلاً وَرَضِيعًا، بَقَرًا وَغَنَمًا، جَمَلاً وَحِمَارًا"(سفر صموئيل-14). نفس الأمر استعملته داعش لاحقاً من خلال نصوصٍ دينية مرتبطة بإبن تيمية، مثل: "أما قتل من أظهر الإسلام وأبطن كفراً منه وهو المنافق الذي يسميه الفقهاء الزنديق فأكثر الفقهاء علي أنه يقتل وإن تاب"(من كتاب الفتاوى الكبرى لإبن تيمية، ص 359؛ وهذه الفتوى يمكن ملاحظة أنها "مطاطة" لدرجة أنه يمكن استعمالها وبسهولةٍ بالغة لهذا الهدف) وأهازيج من قبيل "بالذبح جئناكم". خامساً: لوم القتيل على وجوده في ذلك المكان وفي تلك اللحظة من الزمن. بالتأكيد من المنطقي أن يكون القتيل هو المشكلة. فالصهيوني مثلاً في كثيرٍ من أدبياته يشير إلى أنَّ القتل/المجزرة لم تحدث في "دير ياسين" أو "كفر قاسم" مثالاً حدثت لأنَّ الفلسطينين (أو العرب بحسب تصنيفهم آنذاك في الأدبيات عينها) لم يهربوا في الوقت المناسب (مصدر النص تقرير تلفزيوني للقناة العبرية الأولى في مقابلة مع أحد منفذي دير ياسين حدث خلال العام الحالي). في مجزرة تل الزعتر كان الحديث أكثر اختلافاً وإنما يصب في ذات المكان: "لقد فتحنا لهم الأبواب كي يرحلوا ولكنهم أصروا على البقاء في منازلهم" (النص موجود في إحدى الوثائقيات عن حرب لبنان بثت على قناة الجزيرة). سادساً: الوحشية الهائلة في إتيان فعل التقتيل. يجب أن تكون "المقتلة" كاملة والصور يجب أن تكون شاهدةً عليها. هنا تختلط الوحشية بالخيلاء بالدموية في إطار واحد. التقطيع، التمثيل بالجثث، بقر البطون والعيون، فضلاً عن حالات الإغتصاب والأفعال الجرمية المتفلتة. هنا لا يوجد قانون سوى قانون الوحوش المتفلتة من عقالها. أنت في قلب الحدث إذا إما أنت قاتلٌ أم قتيل، لا حلول ثانية. سابعاً: عدم إعادة قراءة فعل "المجزرة" و"التقتيل" والأهم عدم اللوم عليها والاتفاق على إغلاق صفحاتها (خصوصاً آسيوياً وشرق أوسطياً)، بحيث لا تحدث مصالحات حقيقية، ولا يتم "دمل" الماضي والقضاء على مشكلاته، بل بالعكس تعود الفكرة قابلةً للحدوث بعد سنوات وممكنة التكرار عند أي ظروفٍ قابلةٍ للإعادة. ولأنه لا قراءة حقيقية لما حدث، ولأن كل طرف يعتقد بأنه هو المحق في كل ما حدث يمكن اعتبار الأمر معاداً بتأجيل فحسب. ناهيك عن أن الطرف "القتيل" هو على حق في النهاية، لأنه لم يفعل شيئاً سوى انتظاره للمجزرة، وأن القاتل هو "الفاعل" المطلق في هذه القضية. ثامناً: تستثمر المجازر العنيفة سياسياً بشكلٍ كبير، سواء لناحية إظهار قوة القاتل، أو لناحية حتى أنه "قادرٌ" على فعل ما لايفعله الآخرون. هذا الأمر برز في كثيرٍ من المجازر (الصهاينة في فلسطين أكبر مثال على هذا، داعش في الموصل مثالٌ صارخٌ آخر). تاسعاً: يتنصل جميع المفكرين/الأيديولوجيين الذين أيدوا المجزرة في لحظتها، لابل وإنّهم يلومون مؤدي المجزرة على فعلتهم، ويصبحون بشكلٍ كبير من ألد أعداء ما حدث. وهذا يمكن ملاحظته مثلاً حينما أشار وليد جنبلاط في وثائقي "حرب لبنان" حينما سأله المقدّم عن مجازر الجبل، فقال "هم غزوا ونحن غزونا"، ولكن بنبرةٍ فيها الكثير من الأسف؛ أو حتى في حالة سمير جعجع قائد القوات اللبنانية الذي اعتذر عن "أخطاء" القوات خلال الحرب الأهلية (بمعنى كل المجازر التي قامت بها قواته). أما مؤدوا المجزرة فعادةً ما يعانون من أمراضٍ نفسية لايمكن الشفاء منها (كما هي حالة أسعد الشفتري أحد قادة القوات اللبنانية الذي حكى في فيلم "ليالٍ بلا نوم" لإليان الراهب حول الأمر). عاشراً: على المجزرة أن تغطّى اعلامياً، أن تصوّر وبشكل وثائقي، وإلا فإنّها لن يثبت حدوثها، هذا الأمر يستفيد منه القاتل والقتيل في آنٍ معاً. القاتل يستفيد من نواحٍ عدّة أبرزها تحقيق أهداف المجزرة الرئيسية: الإنتقام كما التشفّي بمن أغضبوه (أو أغضبوا من هم خلفه: حزبه، قبيلته، مجموعته إلخ.)، الإخافة (كما فعلت إسرائيل من خلال مجازرها، وكما فعلت وتفعل داعش اليوم)، الضجة (أن تعلن عن نفسها، كما فعلت بوكو حرام في نيجيريا، أو جيش الرب في أوغندا). على الجانب الآخر تحصل الضحية إذا ما أعلنت المجزرة على الحق في أن تنتصر حتى بعد موتها من خلال معاقبة من أدى وحرض وسبب لتلك المجزرة. أضف إلى ذلك الحق في عدم تكرار الأمر وحصوله، وهو الأمر الذي لن يحصل إن لم تعلن المَقتلة. في المحصّلة تحدث المجزرة، وحال حدوثها تصبح كل الأشياء سواء، لأن الدماء التي سالت في لحظتها لم يكن يجب أن تنزل من أصحابها؛ لأن المجزرة ليست فعلاً منزلاً من السماء لابد له من الحدوث. إنها لحظة "تخلي" (كما وصّفها مرةً وليد جنبلاط)، أو هي الأقرب إلى البرهة التي يتحوّل فيها الإنسان إلى وحش يجب لجمه وسجنه لا تركه للإفتراس والقتل. ولاريب أن السلوكات المتشابهة تجعلنا متأكدين أن البنية الأساسية للمجزرة –والتي أوردناها- هي قريبة من جميع "مؤدي" المجازر والمنظرين لها، بالتالي فهي لا تتوقف عند حدود شعبٍ أو منطقة جغرافية. في الختام: على الجميع أن يرفض المَقَاتِل، أن يعلن صراحةً وبكل قوّة أن المجازر لن تحدث، وهو لن يكون شريكاً فيها، ولن يقبلها، كما لن يقبل مؤديها ومرتكبيها، ولن يتعامل معهم على أساس أنهم "شركاءٌ في الإنسانية" أو "إخوة" أو "أصدقاء". فمن ذاق الدم مرة لن يتوقف عن الأمر البتة.