وصف الكاتب الراحل "محمد حسنين هيكل" زيارة السيسي الأولى بعد توليه الحكم إلى الولاياتالمتحدة بأنها بالغة الصعوبة، واستخدم تعبير "كشف هيئة" لتوصيف لقاءه بقيادات العالم هناك. لم تكن الصعوبة التي قصدها هيكل في الوقوف أمام زعماء العالم ، وتلاوة ما تيسر من الخطب سابقة التحضير، ولكن كل الصعوبة في اللقاءات الجانبية التي يعقدها رؤساء العالم، اللقاءات التي لن يسعفه فيها مستشار ملاصق، ولن تكون هناك أسئلة مكتوبة، وإجابات مجهزة. قدم هيكل للسيسي تصور مناسب لدور رسمه الأستاذ ووضع ملامحه قبل وفاته، ولم يخرج السيسي عن النص والدور المرسوم في لقاءاته. كان اللقاء الأهم في زيارته الأولى ، يجمعه بهنري كيسنجر، المخطط الأمريكي للشرق الأوسط خلال عقود، وعدد من قدامى دبلوماسيي الولاياتالمتحدة ومستشاري الأمن القومي بها، وهو ما يمكن اعتباره "كشف الهيئة" الذي تحدث عنه هيكل. وفق تحليلات تالية للقاء السيسي الأهم، فإن الجنرال المصري قدم نفسه بنفس تعريف هيكل له "مرشح الضرورة "، فالسيسي تحدث في عدم رغبته في الحكم أو الاستمرار به، وأن هدفه الوحيد هو الحفاظ على الدولة المصرية من الانقسام، وأن كل خطواته كانت في سياق الحفاظ على مؤسسات الدولة وترابطها. لاقت فكرة "رجل الدولة" الذي ضحى بنفسه من أجل إنقاذ الدولة المصرية من الغرق، وحماية العالم من مصير مجهول ل90 مليون مصري، ربما يتحولون إلى طوفان لاجئين يكتسح أوربا. تلاحقت زيارات السيسي للولايات المتحدة، وحرص فيها على التمسك بنفس الدور، رجل الدولة القوي الذي يمسك خيوط مؤسساتها بحزم، ويتعامل بمرونة تامة مع فكرة تخليه عن السلطة في "الوقت المناسب"، لم ينكر السيسي تدهور حالة حقوق الإنسان في مصر، ولكنه تحدث عن أولويات توفير لقمة العيش. اعترف بانتهاكات "الشرطة المصرية" وتحدث عن صعوبات بنيوية بها تجعل من الصعوبة الشديدة إصلاحها واعادة هيكلتها. باختصار لم يكن "السيسي" في الولاياتالمتحدة هو نفس السيسي الذي يتحدث في مصر، ويبدو أنه أيضا لا يصدق ما يتفوه به إعلامه، وربما لا يستمع إليه، فكان رجل دولة صادق وواعي وحازم ومرن بالنسبة لجنرال عسكري، ومتساهل بالنسبة لديكتاتور، ويترفع عن البقاء في السلطة بخلاف الوصف الاستبدادي له. لم يستمر ارتياح السيسي إلى الحليف الأمريكي خاصة بعد فوز الرئيس "ترامب" ولقاءهما بالبيت الأبيض، ثم اللقاء التالي في الرياض، وختمه بالموافقة على "تأديب قطر"، فالمؤسسات الأمريكية بدأت خطوات ضغط كبيرة ومتلاحقة على نظام السيسي، تجميد لجزء من المعونة والتجهيز لمحاكمة اثنين من قيادات الصف الثاني في الداخلية بتهم التعذيب، ثم تقرير "هيومن رايتس" وتصريحات من برلمانيين ديمقراطيين وجمهوريين تنتقد وضع حقوق الإنسان بمصر. بعد قرار تجميد جزء من المعونة الأمريكية بسبب "وضع حقوق الانسان"، تم تداول أخبار عن مكالمة بين السيسي وترامب، يبدو أنها لم تكن بنفس حميمية لقاءهما السابق، خاصة بعد تداول وسائل اعلام أمريكية أخبار عن صفقات تعاون عسكري سرية بين مصر و كوريا الشمالية. 3 خطوات أقدمت عليها الدولة المصرية بعد مكالمة "ترامب" ، كان أولها التراجع المعلن عن اقتراحات تعديل الدستور والمواد المتعلقة بفترة الرئاسة ونظام الحكم، تلاها أحاديث جانبية حول تعديل لقانون "الجمعيات الأهلية"، ثم زيارة وزير الدفاع "صدقي صبحي" إلى كوريا الجنوبية، وتصريحاته لوكالة الأخبار الكورية بقرار قطع العلاقات العسكرية مع كوريا الشمالية، ثم توقيع اتفاقية للتعاون العسكري بين القاهرة وسيول. استطاعت القبضة الأمنية لنظام السيسي أن تحميه من تقلبات الداخل، والبطش السريع والفج بالمعارضين جعل من فترة حكمه الأولى 4 سنوات بلا خطورة، واستطاعت "خطة هيكل" أن تمنحه شرعية لفترته الرئاسية الأولى، لكنها لم توفر الشرعية سوى لفترة واحدة. أتصور أن وفاة هيكل صنعت أزمة للسيسي أكبر مما يتصور ، فان حاكم الضرورة يزول حكمه بزوال الضرورة . الزيارة الحالية للرئيس المصري هي الأهم منذ زيارته الأولى، فقد سبقتها خطوات تصعيدية تجاهه، كما سبقها لقاء الشهر الماضي جمع "ترامب" و"كيسنجر"، شرح فيه الأخير للرئيس الأمريكي، ما يبدو أنه الوصفة الأمريكية لشكل الشرق الأوسط ما بعد داعش، كتب بعده مقالا يشرح فيه الدور الأمريكي المركب في المنطقة المشتعلة دائما. من سيرث أراضي "داعش" الدول السنية أم إيران؟. كان هذا تساؤلا طرحه "كيسنجر" في مقاله، بالتأكيد ورقة الإجابة داخل المكتب البيضاوي. الدور المصري في الشكل الجديد للشرق الأوسط لم تتضح له معالم، فمصر المشغولة ب "خناقة" مع قطر لم تحدد شكل لعلاقتها مع إيران أو تركيا، الدول الأهم في رسم الخريطة الجديدة، فقط علاقات مميزة مع دول الخليج، خاصة الإمارات، واتفاق سري يحمل اسم "صفقة القرن" يرفع العلم الصهيوني فوق المزيد من أراضي المنطقة. ربما تصور السيسي أن إرضاء حلفاء الخليج بجزيرتي تيران وصنافير وعدد من المشروعات والأراضي، وإرضاء حلفاء أوربا بعدد من صفقات السلاح، والحليف الصهيوني بصفقة القرن، والأمريكي ببرنامج قاسي للإصلاح الاقتصادي، ربما تحمل هدية معها فترة جديدة للحكم. تعلمنا أن الإمبريالية لا تمنح هدايا بلا مقابل. يلتقي السيسي في زيارته الحالية بكيسنجر في جولة جديدة، بالتأكيد يحمل كيسنجر في جعبته الحديث من التكتيكات وفق استراتيجية دقيقة، وربما لازالت جعبة السيسي فارغة سوا من بعض كلمات كررها مرارا. ولقاء آخر مع الرئيس الأمريكي "دونالد ترامب" يبدو أنه على قدر من الأهمية لدرجة منعت إقامته في مقر الأممالمتحدة كما هو معتاد، أو حتى في ضيافة الرئيس الأمريكي، ولكنه سيعقد في مقر إقامة الرئيس المصري، بحسب معلومات ذكرها الكاتب المقرب من الرئاسة المصرية "ياسر رزق". قدم السيسي الكثير ثمنا لشرعيته في الفترة الأولى، ولكنه لم يحتفظ لنفسه بما يمكن أن يدفعه ثمنا للفترة التالية، حتى صفقة القرن يبدو أنه سيتم التعجيل بها إلى بدايات 2018. رحلة السيسي إلى الولاياتالمتحدة حتما سوف تحمل معها "مطالب" فيما يخص الانتخابات المصرية في صيف 2018، ضمانات بنزاهة الانتخابات، ربما تصل حد الرقابة الدولية، وهو ما سيكون ظاهرا لنا بعد عودة السيسي بأيام، كما ستحمل مطالب بالنسبة للدولة المصرية وموقفها من الشكل "الأمريكي" للمنطقة بعد انتهاء الدور الداعشي فيها. لن يرغب السيسي الذي يكره الاحتمالات ويخشى المواجهة العادلة، في خوض انتخابات نزيهة بضمانات قد تتسبب في الإطاحة به خاصة مع ورود أنباء عن ترشح المنافس الأقوى "أحمد شفيق". الاختيارات صعبة أمام السيسي ، ولازالت 99% من أوراق اللعب في يد الأمريكي، بعد أن تنازل حكام مصر عن أوراقهم طواعية.