لا يغفل الكيان الصهيوني عن أي وسيلة يستطيع من خلالها اختراق عقلية المواطن العربي؛ للتأثير على قناعته السياسية وعقائده الدينية تجاه عدائه مع إسرائيل، في المراحل السابقة كانت إسرائيل تتخذ من الحروب وسيلة قسرية لفرض هيمنتها على العرب والمسلمين، فخاضت الكثير من الحروب في فلسطين ومع مصر وسورياولبنان، ولكن يبدو أن كلفة هذه الحروب مرتفعة، وتترك ندوبًا في الشخصية العربية معادية لإسرائيل لا يمكن محوها بسهولة. في الآونة الأخيرة ومنذ ست سنوات، أي مع بداية ما يسمى بالربيع العربي، اعتمدت إسرائيل على تغذية حروب الوكالة في المنطقة، حيث كانت تدعم طرفًا من أطراف الأزمة السورية كالمعارضة ضد الطرف الحكومي، والهدف بالطبع إنهاك سوريا ككل واستنفاد قوى مقاومة كحزب الله في الحرب السورية، وعلى المستوى الإقليمي تعمل إسرائيل حاليًّا لتشكيل قوى عربية؛ سنية لتحارب عنها بالوكالة إيران. ويبدو أن مسارات القوة الخشنة لم تأتِ كما تشتهي السفن الإسرائيلية، فالحروب عرضتها لانتكاسات كبيرة في الآونة الأخيرة كحرب غزة وحرب لبنان 2006، والحكومة السورية وحلفاؤها قلبوا الموازين لصالحهم في سوريا، والأزمة الخليجية أخذت تفتت أركان الناتو الإسلامي الذي كانت تعد له لقتال طهران. وهنا نجد أن إسرائيل لم تهمل خيار القوة الناعمة، وهو مفهوم صاغه جوزيف ناي من جامعة هارفارد، لوصف القدرة على الجذب والضم دون الإكراه أو استخدام القوة كوسيلة للإقناع. ويبدو أن بوابة الفن هي أحد المنافذ المهمة لهذا الغزو الناعم، فالمغرب أكدت استقدام مجندة سابقة في جيش الاحتلال الإسرائيلي للمشاركة في مهرجان «طنجة جاز» الذي بدأ تنظيمه في مدينة طنجة أمس الخميس، بعد أن أكدت إدارة المهرجان على موقعها الرسمي إحياء الفنانة المشار إليها حفلاً اليوم الجمعة. وحسب برنامج المهرجان المنشور على الموقع الرسمي لمهرجان «طنجة جاز» فإن الموسيقية الإسرائيلية، نوعام فازانا، ستحيي حفلها الفني ليلة الجمعة بقصر المؤتمرات «قصر مولاي حفيظ» رغم الرفض الذي عبر عنه العديد من الرموز الإعلامية والحقوقية في المدينة. وقالت الجمعية المغربية لمساندة الكفاح الفلسطينيبطنجة في بلاغ "إنها تدين بشدة هذه المحاولة التطبيعية التي اعتبرتها مكشوفة، وطالبت منظمي المهرجان بالتراجع فورًا عن هذه الدعوة المشبوهة"، وأكدت الجمعية أن هذه الخطوة التطبيعية المجانية سلوك خطير يستهين بمشاعر القوى الحية للشعب المغربي، ويلقي بالمسؤولية الجسيمة على عاتق السلطات التي تسمح بهذه الممارسة. المفارقة هنا أن المغنية الإسرائيلية كانت تخدم في سلاح الجو الإسرائيلي الذي طالما قتل الأطفال، وشرد آلاف الفلسطينيين، وانتهك العديد من الأجواء العربية كسوريا ومصر، لدرجة أن لبنان قبل أيام تقدمت بشكوى إلى مجلس الأمن ضد إسرائيل بسبب خرق طيرانها مجال لبنان الجوي. وعلى صعيد الساحة اللبنانية نجد أن لإسرائيل محاولاتها في اختراق الساحة الفنية أيضًا، فقبل أيام أخلي سبيل المخرج اللبناني، زياد دويري، بعد أن صادرت السلطات اللبنانية جواز سفره الفرنسي واللبناني فور وصوله إلى مطار بيروت الأحد 10 سبتمبر، وأحالته إلى القضاء العسكري، وواجه دويري تهمة "التطبيع مع إسرائيل" على خلفية زيارته لتل أبيب بين عامي 2011 و2012 والإقامة فيها 11 شهرًا؛ لتصوير فيلمه "الصدمة"، والذي مُنع عرضه في لبنان وبعض الدول العربية. النشاط الإسرائيلي في مجال الفن أخذت وتيرته تتصاعد خلال هذا العام، ففي الشهر الماضي أعلن عدد من الفنانين العرب عن انسحابهم من مهرجان "بوب كولتور"، الذي أقيم في العاصمة الألمانية برلين، من 23 إلى 25 أغسطس، بسبب رعاية سفارة الاحتلال الإسرائيلي له، ومن بين الفرق المنسحبة الفرقة الموسيقية المصرية "إسلام شيبسي"، كما نشرت فرقة "مزاج" السورية بيانًا، أعلنت فيه عن مقاطعتها للمهرجان، وأكدت أن "المشاركة اعتراف، ونحن لن نعترف" في إشارة إلى مساهمة السفارة الإسرائيلية، مع العلم أن إسرائيل كانت تخفي هويتها كمنظمة لهذا المهرجان، وعندما كشفت عن رعايتها له انسحبت فرق عربية كثيرة، الأمر الذي أفشل سياسة الأمر الواقع التي أرادت فرضها. محاولات إسرائيل في هذا المجال لم تقتصر على اختراقها للدول العربية التي ترتبط بها باتفاقيات سلام أو غير ذلك، بل إن هذه الاختراقات طالت أيضًا العمق الفلسطيني، حيث نحجت تل أبيب في شهر إبريل الماضي في استقطاب مغنية فلسطينية مسلمة للغناء في احتفالية إسرائيلية بيوم وطني معروف لديهم باسم "يوم الاستقلال"، وهو اليوم الذي شهد نهاية الانتداب البريطاني على فلسطين، وهو نفس اليوم الذي يلقبه الفلسطينيون ب"يوم النكبة"، والذي شهد تواجد العدو الإسرائيلي داخل الأراضي الفلسطينية، وتقام هذه الاحتفالات على جبل "هرتزل" الموجود في القدس، وفي هذا اليوم من كل عام يقوم أحد مطربي إسرائيل بإحياء هذا الحفل الغنائي، ولكن هذا العام وللمرة الأولى في تاريخ إسرائيل تتغير مفاهيم إحياء هذا الحفل، حيث قامت المطربة الفلسطينية "نسرين قادري" بإحياء الحفل والغناء أمام الجمهور الإسرائيلي، وكانت قادري قد فازت بأكبر مسابقة لاختيار الأصوات الشابة الجديدة في عالم الغناء الشعبي بإسرائيل، وهي "إيال جولان يناديك"، كما أنها عبرت عن فخرها بأن تكون أول متسابقة فلسطينية تفوز بهذا اللقب، بعدما غنت أغنية باللغة العبرية كُتبت في ذكرى الجنود الإسرائيليين القتلى. ويرى مراقبون أن على الشعوب العربية الانتباه لمحاولات الاختراق الصهيونية للعقلية العربية، خاصة أن الأفكار الغربية أصبحت تدس كالسم في العسل في معظم الأعمال الفنية العربية دون رقيب فني أو حتى ديني، وهو الأمر الذي قد يمهد للانفتاح على إسرائيل ولكن بصورة تدريجية.