لم يحدث أن فُتِنَ مثقفٌ بالهزيمة مقدار فتنة المثقّف العربي بالأمر. لم يحاول المثقّف هذا أن يحلل لِمَ حدثت لإيجاد حلولٍ من شأنها تحديد بواطن الخلل وتصحيحه؛ بل بالعكس، كان الهدف هو "الحديث عن الأمر لاستجدائه" وخلق استعطاف، وتعاطف، وشماتة. تارةً يتم تناول الأمر تحت صيغة: ألم أقل لكم أن الأنظمة القمعية لا تستطيع الإنتصار؛ أو تحت صيغة: ألم أخبركم أنَّ الأيديولوجيات متخلّفة ولا تستطيع تحقيق شيء (الأيديولوجيات بمعنى القومية والشيوعية وسواها)، أو ضمن منطق: "هل لاحظتم كم هو الشعب العربي قابل للهزيمة وغير قادر على الصراع". لم يهزم الشعب العربي يوماً؛ ما هزم هو أنظمته. وهذا فارقٌ كبير. لم يخسر العرب أمام الإستعمار، كما لم يخسروا أمام الكيان العبري، ما خسر هو الأنظمة العربية بقدّها وقديدها. كان من ضمن من خسر طبقةٌ تعرف بإسم "مثقفي" السلاطين؛ كان كثيرٌ من هؤلاء يعدّون أنفسهم "مثقفي" العرب و"طبقتهم الثقافية الأولى. خسر هؤلاء كما خسرت الأنظمة العربية. فباتوا يلومون كل من يمر أمامهم: الأيديولوجيات، الثقافات، الأسلحة، طرق الإمداد، الشعوب، التدريب، الجيوش؛ بمعنى آخر: كل شيء. أكثر من هذا: غيّر هؤلاء جلدهم بطريقةٍ فريدة: من كان شيوعياً بات يعيب على الشيوعية، من كان قومياً بات يحتقر القومية، من كان وطنياً صار يعدّ الوطنية سخفاً وقباحة. فتن مثقفوا العرب وأدعياء الثقافة بالهزيمة أيما فتنة: فكتبوا وأرخوا للهزائم بشكلٍ غريب وخلبي. حيث يمكن أن تجد مئات الكتب وآلاف الأبحاث والمقالات التي تتناول النكسة، أو النكبة أو أية هزيمة عربية كبرى. في الوقت عينه ليس هناك أي تمجيد للإنتصارات. كانت الإنتصارات لدينا -وعلى عكس جميع الشعوب- لا آباء لها ةبلا أي نوعٍ من الضجّة: لا أحد يكتب عنها، لا أبحاث لا مقالات، ضئيلةً، تافهة، قزمة، وتحتاج دوماً للدفاع عنها. انتصر حزب الله مثالاً في العام 2000 وطرد الصهاينة من أرضه، كتبت أكثر آلاف المقالات للتأكيد على أنَّ ما حدث ليس انتصاراً، بل بالعكس هي "إتفاقية" جرت بين الصهاينة وحزب الله (كما أشارت صحيفة عكاظ السعودية مرةً). في العام 2006 أيضاً صمد حزب الله أمام آلة حربٍ وحشية، وكعادة المقاومات -أي مقاومات- مجرد بقائها على قيد الحياة يعني انتصارها؛ نفس الشيء احتسب: لم يكن انتصاراً ولم يكن صموداً، كانت هزيمةً نكراء. كيف يمكن اقناع مثقفوا الأنظمة البائدة، بقدّهم وقديدهم أنَّ الإنتصار ممكن؟ كيف يمكن إيصال فكرة أنَّ قدرة الشعوب العربية على النصر موجودة ولا تحتاج لأن تستورد من الآخر/الغرب؟ يبقى في الختام؛ أن النقاش الحقيقي يجب أن يكون دائماً: متى سيغّير العرب طاقم مثقفيهم بشكلٍ كلي؟