اختتم تكتل دول البريكس أعمال قمته التاسعة، الثلاثاء الماضي، في مدينة شيامن الصينية، في مناخ عالمي يتضح يوما بعد يوم ما يشهده من تحولات، وإن كانت تتسم بالبطء، إلا أنها تشكّل تغيرات نوعية في النمط الاقتصادي العالمي وسياسات التعامل مع الثروات والتجارة العالمية بين الكيانات والتكتلات السياسية في العالم. تمثل الكتلة السكانية للنواة الأساسية لمجموعة البريكس، البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، نحو 45% من إجمالي سكان العالم، وتمثل اقتصادات دول المجموعة نحو 25% من إجمالي حجم الاقتصاد العالمي، ونصف إجمالي معدل النمو الاقتصادي العالمي في العقد الماضي والعام الماضي 2016 كذلك، واليوم، بعد متغيرات سياسية حادة شهدها العالم وكان للشرق الأوسط دور رائد في حدوثها، لم يعد الحديث عن "إقامة منظومة اقتصادية عالمية بديلة للعولمة" حديثا مستقبليا يوصف بالاستشراف والتمنّي فقط، بل أصبح أقرب للواقع المُعاش، فالعقد الماضي كما شهد أزمة رأسمالية كبيرة في الغرب، تم تجاوزها كما تتجاوز الرأسمالية أزماتها البنيوية بكفاءة أغلب الأوقات، شهد أيضا صعودا عمليا لاقتصادات ذلك التكتل وامتدادات لاستثماراته في مجالات الطاقة والتبادل التجاري والبنية التحتية، على أرضية من مبدأ "تعاون دول الجنوب"، أي الدول الخارجة نسبيا عن منظومة العولمة الاقتصادية المُدارة غربيا بسياسة استعمارية، هي ليست فقط مثار استهجان وغضب لشعوب دول الجنوب والأطراف، بل بشكل أساسي تعيق التطور الاقتصادي والاجتماعي لتلك الشعوب وتفسد حياتها في ظل "إقتصاد السوق" المعولَم، الذي لا تجني في خضمه الدول الصغيرة، دول الجنوب، سوى الضغط والإفلاس والتهميش والتعرض للاستغلال الاقتصادي والسياسي الفاضح، وسوء إدارة وتصريف ثرواتها لصالح منظومة الهيمنة والتبعية التي تحكم اقتصاد السوق والعولمة الاقتصادية الغربية. من هنا فالمنظومة السائدة حاليا يتجاوزها الواقع، موضوعيا بشكل تدريجي، في ظل تغيّر التركيبة السكانية للعالم بصفة عامة ولدول الجنوب والعالم الثالث، وفي ظل التباين غير الإنساني في مستويات التطور والمعيشة بين الأخيرة وبين ناهبيها المُنظّمين، تباين لم ينشأ "قَدَريا" إنما بفعل سياسات ممنهجة ومركّبة وشاملة، ولم يعد منطقيا مع صعود دول وكيانات وتكتلات مغايرة قررت جمع جهودها في إتجاه بديل للعولمة الاقتصادية الغربية في شكلها الحالي، وبفلسفة قائمة على التكامل وحسن إدارة واستغلال الموارد، وشكل أكثر عدالة من أشكال التبادل التجاري، بعد أن انهمكت منظومة الغرب، في أحد مساراتها، في الاقتصاد "النقدي" أي المالي القائم على إعادة تدوير العُملة في سوق الأوراق المالية، وجنْي أرباح خيالية من اللاشيء لصالح المنظومة ومن يديرها، وفي مسار آخر تعاظَم الاقتصاد الخدمي غير المنتج وشهد تضخما فارقا، وصولا إلى ميل كفة الميزان التجاري بين الولاياتالمتحدةوالصين،مثلا، لصالح الأخيرة، وإلى تداعيات وانعكاسات منها تفوق الناتج الإجمالي الصيني على نظيره الأمريكي، ومنها ما أثّر أيضا على أوروبا واتحادها الاقتصادي وقواه ومراكزه. تعمل البريكس كشبكة دعم متبادل والتزام بمساعدة نهوض بعضها البعض على أرضية من المصالح المشتركة والتكامل التجاري والاقتصادي والتنموي، وتتجه منذ نشأتها، وإن سار ذلك بمعدل غير متسارع، إلى شراكة أوسع مع الأسواق الناشئة والأقطار النامية وتعاون براجماتي معها، وصولا إلى وضع التكتل وحلفائه على خريطة السوق العالمي من موقع الشراكة وليس الاستغلال، من طرف واحد، لثرواتها وإمكاناتها ولا الإستهلاك المحض لقواها الشرائية، وأحد أبرز تمثلات ذلك كان المشروع الصيني العملاق "مبادرة الحزام والطريق" المعروف بإسم "طريق الحرير الجديد" الذي اُعلن عنه للمرة الأولى عام 2013 واُطلِق في شهر مايو من العام الحالي، وهو مشروع للاستثمار التنموي مع دول آوراسيا يتضمن مليارات الدولارات في استثمارات للبنية التحتية، على طول الدول الواقعة على "طريق الحرير" التجاري القديم الذي كان يربط الصين بأوروبا، ويعمل على فرعين رئيسيين هما "حزام طريق الحرير الاقتصادي" البري و"طريق الحرير البحري"، كما تتجه العديد من الدول المشاركة في المشروع أيضا إلى المشاركة في مشروع صيني آخر هو البنك الآسيوي للاستثمار في البُنى الأساسية، الذي اقترحت الصين تأسيسه عام 2013 واجتذب 160 مليار دولار من الاستثمارات تُعَد حاليا قيد التنفيذ بتمويل من البنك، وبالإضافة لذلك، شهدت قمة البريكس للعام الحالي فكرة مشابهة اُطلق عليها "مبادرة بريكس بلس" وتمثلت في إستضافة التكتل، للمرة الأولى، لمجموعة جديدة من دول الجنوب هي مصر وغينيا والمكسيك وطاجيكستان وتايلاند، وجميعها تتمتع من حيث الإمكان بسمات وموارد طبيعية وبشرية كبيرة، لا تسعفها في التنمية والتطوير بقدر كافٍ. مسارات ومجالات عديدة كانت وستتطور كميادين وحقول للعمل وفقا لمجموعة البريكس، على قمتهم الاستثمار والتجارة في الغاز الطبيعي المُسال، فضلا عن عملية تسييله، وهيدرات الميثان (يُطلق عليها النفط الثلجي) التي تُستخرج من قاع المحيطات، ونجحت الصين تحديدا في استخراجه بكميات ثورية وتكلفة غير عالية كفيلة، حال تطوير الأمر، بضرب أسعار النفط وهيكلها المتعارف عليه، إلى جانب المشروعات التقليدية التي شملت مؤخرا تمويل11 مشروعا تنمويا بدول المجموعة بقيمة إجمالية تبلغ 3 مليارات دولار، تغطى مجالات الطاقة والمياه والبنية التحتية والتكنولوجيا والنقل والتجارة البحرييَن، المجالات الرئيسة لنشاط البريكس الاقتصادي، مع عناية دائمة باستخدام التكنولوجيا الفائقة في مشروعات البنية الأساسية والتحتية وتطوير علاقة المجالَين ببعضهما البعض، الأمر الذي يصب في صالح البنك الآسيوي للاستثمار في البُنى الأساسية واستثماراته، ويكفل لدول المجموعة والدول المتعاملة معها استثماريا العديد من أوجه الربح والمصلحة، فعلى عكس المؤسسات المالية "العالمية" التي تعمل في مجال الإقراض والتنمية على منع توطين التكنولوجيا وحظر الصناعات الثقيلة والمتطورة في دول الجنوب والعالم الثالث، ينطلق البريكس من مبدأ عملي مختلف يصب في صالح دول المجموعة في نهاية الأمر، وهو أن دول العالم الثالث تشكّل أكثر من ثلث الاقتصاد العالمي دون أن تمتلك تأثيرا مماثلا فيه، ودون أن يستفيد من مجمل المسألة أي طرف سوى الاحتكار العالمي للعولمة الاقتصادية، في ظل وجود إمكانية لوضع سياسة مختلفة تكفل تبادل حقيقي للمصالح المشتركة.