تشهد هذه الأيام تحولا إقليميا في سياق تحولات عالمية، اتخذ طريقه الصاعد منذ نحو 6 سنوات ليثمر في الأشهر القليلة الماضية وضعا متميزا سياسيا واستراتيجيا في الشرق الأوسط، يعد هو الأعلى تمثُلا حتى الآن قياسا بما يسير فيه العالم كله من حركة طبيعية للتاريخ، حيث يمكن الآن أكثر من أوقات كثيرة أن نفهم التراجع الأمريكي الذي بدأ اقتصاديا بطبيعة الحال وشمل فصولا كثيفة من التغيرات في نمط الثروة والاقتصاد وفي الأسواق وصناعة الطاقة وصعود قوى موازية خارجة عن السمة الإحتكارية للعولمة الإقتصادية، المحكومة أمريكيا وأوروبيا، وتضمّن تحولات في موازين القوى بآسيا (شرقها وجنوبها الغربي وغربها) وأمريكا الجنوبية وأوروبا الشرقية والشرق الأوسط، وصولا إلى حالة حالية من الارتجال الأمريكي أمام فشل متوالِ للعشرات من الترتيبات الأمريكية السابقة، ولشكل كامل من العلاقات الدولية كان في حكم الراسخ والطبيعي لعقود مضت ثم بات الآن في حكم الغياب عمليا، بعد أن مثّل الشرق الأوسط والمنطقة العربية، بحكم عوامل عديدة، طور "التتويج" للمتغيرات العالمية وعبّر عن خلاصة لها بشكل من الأشكال. الصعود الاقتصادي الصيني الذي يمكن قراءته بلغة السوق العالمي بطبيعة الحال، وانعكاساته على الأسواق الإقليمية المتعددة، نجح في وصْل سلسلة من العلاقات الاقتصادية بمنظومة، مغايرة نسبيا للسائد، لتدوير الثروة والتبادل التجاري والسلعي، شملت أسواق آسيا الوسطى وأوراسيا وأمريكا الجنوبية، وفضلا عن تجمع "البريكس" العالمي بشراكة روسيا والهند والبرازيل وجنوب إفريقيا، تشكّل المشروع الصيني العملاق "مبادرة الحزام والطريق" المعروف باسم "طريق الحرير الجديد" الذي أعلن عنه للمرة الأولى عام 2013 وأطلِق في شهر مايو من العام الحالي، وهو مشروع للاستثمار التنموي مع دول أوراسيا، يتضمن مليارات الدولارات في استثمارات للبنية التحتية على طول الدول الواقعة على "طريق الحرير" التجاري القديم الذي كان يربط الصين بأوروبا، ويعمل على فرعين رئيسيين هما "حزام طريق الحرير الاقتصادي" البري و"طريق الحرير البحري"، كما تتجه العديد من الدول المشاركة في المشروع أيضا إلى المشاركة في مشروع صيني آخر هو البنك الآسيوي للاستثمار في البنى التحتية، الذي اقترحت الصين تأسيسه عام 2013 واجتذب 160 مليار دولار من الاستثمارات تُعَد حاليا قيد الدراسة أو التنفيذ بتمويل من البنك، مع تخطيط لمشروعات إسالة الغاز الطبيعي في إفريقيا، والصين هي المبادر الطليعي عالميا حتى الآن في تقنية الإسالة، وتدبير لتكون البائع الأرخص لمحطات إسالة الغاز العائمة التي تستخرجه من تحت الماء وتحولّه إلى سائل على محطة عائمة ثم تنقله عبر ناقلات للتصدير، و"انفتاح" تدريجي من أكبر منتجي الغاز في العالم على بيعه بالعُملة الصينية وبالروسية أحيانا، وهي بالترتيب، بعد الولاياتالمتحدة الأولى عالميا، روسيا وإيران وقطر، مع الصين في المركز السادس وفارق طفيف للغاية بين الولاياتالمتحدةوروسيا في المركزين الأول والثاني. مضمون التحولات لا ينفصل أيضا، عن حقيقة تمثيل سكان "العالم الثالث" لنحو أكثر من ثلثي مجموع سكان العالم، والنزح الكثيف لفوائض الثروة نحو منظومة "السوق الحر المفتوح" في ظل انسداد تاريخي طالَ أمده عن منظومة بديلة، أو مغايرة بحيث تكفل لدول الأطراف عدم الانسحاق، وعن أزمة القطاع الاقتصادي "المالي النقدي" في الغرب، رأس ومركز العولمة الاقتصادية، وتداعيات استفحال دوره بطبيعته ومكوّناته، مع سعي قوى بديلة، "شرقية" جهويا في أغلبها، إلى الوصول لأسواق ومصادر ومعابر التجارة في جنوب غرب ووسط آسيا، وهي قوى أقرب إلى نموذج التعاونيات الاقتصادية الوطنية والإقليمية من نموذج العولمة وكسر الحدود بالهيمنة وبالاحتكار بأنواعه وبالقوة، إذ يمثل خيارها هذا، مبدئيا، شرطا طبيعيا لتنافسيتها أمام نموذج العولمة الاقتصادية، وميزة تنافسية في الأساس لتعظيم وتوسعة مصالح كياناتها في مواجهة عملية مستمرة من الاحتكار والهيمنة تتناقض مع الكتلة السكانية الكبيرة التي تتمتع بها تلك القوى، ووضعية هؤلاء كقوى إنتاج ومستهلكين أيضا. من هنا يقع الشرق الأوسط والمنطقة العربية في قلب المعادلة بسِمات عديدة وخلفية تاريخية – معاصِرة من الهيمنة الأمريكية، باحتياطات ضخمة لمصادر الطاقة، تتصاعد أهمية الغاز الطبيعي على حساب النفط بخصوصها، ومعابر وإطلالات جغرافية فائقة الأهمية يكفل الحضور فيها ضمانات اقتصادية وسياسية مستقبلية لأمم وكيانات ذات كُتَل سكانية ضخمة، تتناقض مصالحها مع بقاء تلك المصادر والمعابر رهينة لطرف احتكاري، دائما ما يؤمّن الحد الأقصى، بلا حدود، لمصالحه الخاصة، ممسكا بكافة أطراف المعادلة الاقتصادية والجيوسياسية في قبضته، بعد نجاحه منذ زمن في ربط ثروات الكوكب وأغلب سياقاتها وأغلب مفردات العالم السياسية ببنية التبعية له، وصولا إلى واقع تشكيل تلك البنية لأغلب متغيرات وسياسات الشرق الأوسط بلا منازع، الأمر الذي لم يستقم مع الاحتجاز البديهي لتلك البِنية، الاستعمارية بوضوح، لإمكانات وطاقات هائلة كفيلة بأن تصب في صالح سكان المنطقة وقواها الحيّة، ولا سيما مع الفشل الأمريكي والأوروبي التدريجي في استخدام القوة للسيطرة على النقاط الهامة التي لم تكفل التجارة والسياسة السيطرة عليها، من هنا تشكّل واقع خافت، يشرع الآن في التبلوّر أكثر، مفاده أن التنمية المستقلة في عمومها والمعتمدة على الذات أو على حلفاء بعلاقات تجارية وتنموية عادلة هي محل يمكن بلوغه، وأن الارتهان ل"السوق" العالمي وقواه، وهو ليس عالميا في قواه التي تحركه، ليس ضمانة للتنمية الحقيقية بقدر ما هو عائق موضوعي لها، وأن لتلك المنطقة أفق "موازٍ" من الطبيعي تحقيقه وليس العكس، طالما شهد واقع الشرق الأوسط، وآسيا وأمريكا الجنوبية، تجارب عملية أقامت هذا المسار المختلف واستطاعت الوصول لهامش تطور وتنمية لا يعيقه، عمليا، سوى ضغط وحصار وتآمر واحتكارية قوى الهيمنة.