منذ أن دخلت قوات الاحتلال الأمريكي إلى العراق عام 2003، وهذا البلد لا يستقر، وحتى قبل الغزو الأمريكي لا تغيب البصمات الأمريكية عن توريط بغداد في صراعات لا طائل منها، حيث دعمت واشنطن الرئيس العراقي الراحل صدام حسين في حربه العبثية ضد إيران، الأمر الذي ساهم بقدر كبير في تفتيت الجيش العراقي، الذي كان من أقوى جيوش المنطقة. اليوم يبدو أن الإدارة الأمريكية تسعى لتحويل العراق من أتون الصراعات ذات الصبغة الطائفية والتي جاهد تنظيم داعش الإرهابي في افتعالها وبرعاية أمريكية، حيث كانت واشنطن تغض الطرف عن شحنات داعش النفطية، سواء من الحدود العراقية أو السورية، باتجاه تركيا؛ لتعزيز قوتها المالية والعسكرية، إلى أتون الصراعات القومية بين عرب وكرد. صحيح أن واشنطن دعت لتأجيل الاستفتاء الكردي، لكنها في نفس الوقت لا تمارس أي ضغوط على حكومة إقليم كردستان في سياق التأجيل، وبالطبع مطالبة واشنطن بالتأجيل تعني أنها موافقة من حيث المبدأ على انفصال كردستان عن العراق، ولكن ليس الآن، وهو الأمر الذي تلقفه الأكراد كضوء أخضر أمريكي للشروع في مشروعهم المزعوم. السكوت الأمريكي عن ملف الاستفتاء بدا واضحًا من خلال الأريحية التي تحرك بها وزير الدفاع الأمريكي، جيمس ماتيس، في زيارته الأخيرة للإقليم الكردي، فلا مؤشرات عن ضغوط أمريكية على حكومة الإقليم للتأجيل، الأمر الذي دفع كردستان للتمادي أكثر في تحركاتها الراهنة نحو الاستفتاء، فعلى الرغم من الضغوط المحلية والإقليمية والدولية على الإقليم، قالت مصادر رسمية مطلعة إن سكان المناطق المذكورة ضمن المادة 140 من الدستور العراقي سيسمح لهم بالتصويت في الاستفتاء، الذي ستجريه حكومة إقليم كردستان العراق أواخر سبتمبر الجاري، ومن المفترض بموجب هذا الاستفتاء أن يتم تحويل الإقليم إلى دولة منفصلة عن بقية العراق، وتطلق حكومة كردستان العراق صفة المناطق المتنازع عليها على الأماكن التي تطالب حكومة الإقليم بضمها، وتقع بمحاذاة المناطق الواقعة تحت سيطرتها. وأضافت المصادر أن الأماكن التي سيحق لمواطنيها المشاركة في الاستفتاء تقع في محافظات: نينوى وصلاح الدين وديالى، ويتوقع أن يعمق هذا التورط الأزمة مع بغداد التي ترفض الاستفتاء، خاصة بعد إشراك محافظة كركوك الغنية بالنفط والمتنازع عليها فيه. وفيما يخص المناطق المتنازع عليها يرى مراقبون أن قوات البشمركة الكردية تعاملت بانتهازية حولها، فصحيح أن هذه المناطق كسنجار ساهمت البشمركة بشكل كبير في تحريرها، ولكن هذا لا يعني أن يحتفظ بها الإقليم الكردي إلى الأبد، فكثير من هذه المناطق فيها تركمان وعرب ومسيحيون. وكان مجلس محافظة كركوك المتنازع عليها قد صوت في 29 أغسطس على إشراك المحافظة في الاستفتاء على استقلال منطقة كردستان، ما دفع حكومة بغداد الى اعتبار الأمر "حلقة أخرى من سلسلة الأخطاء الكردية". ولا يبدو أن حكومة كردستان في طور التهدئة، حيث انطلقت، أمس وبشكل رسمي، الحملة الدعائية لاستفتاء استقلال إقليم كردستان عن العراق، ومن المقرر أن تستمر الحملة 18 يومًا حتى 22 سبتمبر الجاري، بينما يجري التصويت في 25 من الشهر الجاري، ونظمت حملة دعائية جماهيرية للاستفتاء بعد منتصف الليل في قلعة أربيل التاريخية بمدينة أربيل عاصمة إقليم كردستان، بمشاركة أعداد كبيرة من المواطنين. ولكن هناك عقبات كثيرة ما زالت تحول دون قيام الدولة الكردية التي ينشدونها، فحتى في الداخل الكردي ما زالت هناك أطراف سياسية لا تؤيد الاستفتاء، حيث أخفق حزبا الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة جلال طالباني وحركة التغيير في التوصل إلى اتفاق بشأن الاستفتاء على انفصال المنطقة، وذكر مصدر مطلع أن اجتماعًا عقد اليوم بين رئاستي الاتحاد الوطني الكردستاني برئاسة الرئيس العراقي السابق جلال طالباني وحركة التغيير في السليمانية؛ لمناقشة ملف الاستفتاء على انفصال منطقة كردستان، مشيرًا إلى أن الاجتماع انتهى من دون التوصل الى أي اتفاق يذكر. الجدير بالذكر أن حركة التغيير والجماعة الإسلامية في منطقة كردستان أصدرتا بلاغًا رسميًّا عقب اجتماع مشترك عقد الاثنين الماضي، دعا فيه الجانبان الى تأجيل الاستفتاء لموعد آخر. وبالنسبة لموقف الحكومة العراقية فهو واضح فيما يخص الاستفتاء، حيث اعتبرته مخالفًا للدستور، في الوقت الذي ارتفعت فيه أصوات تلوح بالحلول العسكرية، حيث طالبت كتلة بدر النيابية، في العراق، أمس، بتحرك القوات الأمنية في المناطق التي تقع خارج حدود كردستان؛ لمنع إجراء الاستفتاء فيها، هذا بالإضافة إلى أن هناك أطرافًا إقليمية متأهبة لوقف هذا المشروع كتركياوإيران وسوريا، حيث أعلنت كل من أنقرة وطهران رفع التنسيق العسكري فيما بينهما تحسبًا لأي خطوة كردية متهورة تسير باتجاه الانفصال. وفيما يخص الموقف الأمريكي يقول متابعون بأن واشنطن لن تفوت الفرصة في تعكير الأجواء العراقية، وإن الاستفتاء الكردي لا يختلف عن المخططات الأمريكية في المنطقة، فالاستفتاء يتناسب مع سياسية الإحلال والإبدال التي تروج لها واشنطن منذ مشروع الشرق الأوسط الجديد، فالفراغ الذي ستتركه داعش في المنطقة ستحاول أمريكا ملأه بحلفائها في المنطقة، ولن تجد أمريكا أفضل من حليفها الكردي لملء هذا الفراغ، ما سيضمن لها ورقة ضغط على حكومة العراق المركزية الحليفة لإيران، وهو الأمر الذي من شأنه أن يبقي المنطقة ساحة مفتوحة للصراعات، ما يُمكن واشنطن من الحفاظ على مصالحها في البلدان النفطية وديمومة قواعدها العسكرية في المنطقة بذريعة هذه الصراعات المستمرة.