برغم كل الكوارث التى ضربت جماعة الإخوان عبر تاريخها، سواء بيد أبنائها وقياداتها أو بيد خصومها ظلت تتأبى على فكرة المراجعة، وتشهر أسلحة الفصل والتجميد والتشويه فى وجه كل من حاول تصحيح مسارها أو الاشتباك مع أفكارها ومقولاتها الرئيسة باستدراك أو مراجعة أو تصويب. لكن محنة الحكم لعام يبدو أنها كانت أبعد تأثيرا من أى محنة مرت بها الجماعة، كان الخروج السريع من الحكم بعد عام واحد، ثم الفشل فى بناء مشهد معارضة أو احتجاج صحيح وراشد، والإصرار على الدخول فى حالة إنكار مركب للواقع واتهام خصومها بأنهم وحدهم السبب فى كل ما لحق بالجماعة ومشروعها وعناصرها تزكية لذاتها ولأفكارها ومشروعها لم تتوقف ساعة من ليل أو نهار رغم كل ماجرى؛ لذا فالاحتفاء بأى محاولة جادة للمراجعة أمرا واجبا، وهو ما أريد لفت الانتباه له عبر هذه السطور. كشف الصحفى النابه والباحث المجد الزميل محمد خيال عن حوار أجراه مع مجموعة من شباب الإخوان، الذين انخرطوا فى أحدث مراجعة جادة لأفكار وسلوك وأدبيات الجماعة، وهم مسجونون ضمن أعضاء الجماعة، وبالرغم من أن الأسماء التى ذكرها لا يبدو أنها من قيادات الصف الأول والثانى، إلا أنهم ممن عاشوا التجربة للنهاية وشربوا كأس الجماعة حتى الثمالة، ومن ثم لن يجدى الحديث عنهم باعتبارهم خصوم للجماعة أو أعضاء سابقين. تبقى شهادتهم أو أفكارهم متهمة حتى قبل التصريح بها، كما أن قيادات الصف الأول والثانى بالرغم من أنهم المعنيون أكثر ربما بإجراء تلك المراجعات والدعوة لها، فقد ظلوا حريصون على تأجيل كل أشكالها سواء تعلقت بلوائح تؤبد سيطرة مجموعة خاصة، أو أخرى تفتح الباب لتداول أوسع للرأى أو المؤسسية داخل جماعة لم تؤمن يوما بديمقراطية أو مؤسسية. اللافت والمهم فى تلك المراجعات أنها ليست مناورة يحاول بها التنظيم إعادة التموضع فى الحياة السياسية والاجتماعية، أو لونا من ألوان التقية السياسية التى أدمنتها قيادات الجماعة، حيث تعرضت المراجعة لأول مرة لتابو لم يقترب منه أحد من أعضاء الجماعة، ممن بقوا ضمن تنظيماتها أو تشكيلاتها، وهو نقد المرشد الأول المؤسس حسن البنا، الذى اتهمته بوضوح أنه أسس كيانا موازيا للدولة ووضع دعائم تنظيم شمولى دخل فى صراع دائم مع كل أنظمة الحكم المتعاقبة، كما أكدت اتهام مرسى بأنه لم يكن رئيسا حقيقيا، ولم يصنع تجربته، ولم يُترك بعيدا عن تحكم مكتب الإرشاد الذى جعله رئيسا عاجزا عن إدارة مؤسسة الرئاسة، وهذا اعتراف شجاع وإن أتى متأخرا كالعادة، وقد كنت ممن كتبوا حتى قبل تسلمه الحكم بساعات أنه ينبغى أن يُترك ليصنع تجربته بعيدا عن سلطة الجماعة، التى إن كانت أفلحت فى مهمة التربية فسنرى آثار ذلك فى تجربة مرسى المستقلة، بعيدا عن سلطان الجماعة ومكتب الإرشاد الذى لم يضم سوى مجموعة من أصحاب العقليات الريفية ممن ينتمون لسلطان البطريركية السياسية، التى أدمت وجه الوطن والجماعة فى النهاية، وفى تبرير إنفصال هذه المجموعة عما سموه القرار السياسى لجماعة الإخوان، تحدثوا عن أن السبب يكمن فى أداء الجماعة والهزائم المتكررة التى مُنى بها التنظيم، وهو ما دفعهم للخروج النهائى من التنظيم ومراجعة أدبياته، وأنهم إستفادوا من كتابات سعد الدين العثمانى والغنوشى وأسامة الأزهرى وغيرهم، وأنهم لو عاد بهم الزمان للوراء ما شاركوا فى اعتصامات الميادين، مؤكدين أن مصطلح المراجعات سىء السمعة عند قيادات الجماعة وبعضهم يناصبهم العداء بسببها، وهو أمر طبيعى كما أسلفت فلن تنخرط قيادات الجماعة فى مراجعات أو حتى تحقيقات ستؤكد أن مسؤوليتهم عما جرى لا تقل بأى حال من الأحوال عن مسؤولية الأنظمة المتعاقبة عن قمعهم، بل ربما تفوق نصيب تلك الأنظمة بكثير. يحسب للزميل خيال أنه تمكن من تحقيق هذا الانفراد مع تشكيل المجلس القومى لمكافحة التطرف والإرهاب وانتظام جلساته الأولى، والإعداد لإعلان رؤيته التى يبنغى أن تشمل فكرة المراجعة التى تستهدف عزل من يرغب فى العودة عن مسار التطرف والإرهاب، وقد سمعت بأذنى اللواء فؤاد علام أحد أهم الخبراء الأمنيين وأحد أعضاء المجلس يقول أن قناعته أن الحوار مجد حتى مع من تلوثت يده بالدماء، وهؤلاء كثير منهم حتى لم يتورطوا فى دماء، وربما لم تتجاوز تهم الكثيرين منهم الإنتظام فى الجماعة أو المشاركة فى مظاهرة أو مسيرة. لأول مرة تنطلق من بين أعضاء الجماعة مراجعات تطال أفكار ومقولات المؤسس ومناهج الجماعة ومبادئها الأساسية، حيث اعتبر الشباب أن تلك الأفكار هى جوهر الخلل والسبب المباشر فى تجرع تلك الهزائم على حد تعبيرهم، وأن نظرية التغيير التى طالما تغنى بها الإخوان غير واقعية بدرجة يستحيل تطبيقها فى هذا العصر، وأن تركيز الجماعة على الوصول للسلطة ورطها فى إهمال منهجى للمجتمع والتعويل على تنظيم قوى بديلا عن هذا المجتمع الذى مارس التنظيم عليه وصاية مقيتة، وفق مركزية حكم صارمة وخلط عجيب بين نصوص الدين المقدسة وأدبيات التنظيم، وفى الرد على سؤال هام يقول هل كان فشل تجربة حكم الإخوان حتميا أجاب الشاب حمزة محسن قائلا "فى ظل منظومة الأفكار التى تخلط بين الدين والتنظيم، وتستعلي على المجتمع وعلى الناصحين من أبنائه، وترتجل الأداء السياسى وتتفنن فى الصدام ودخول المعارك الصفرية، وتوهم أتباعها بأن صراعاتها عقائدية على الهوية والدين، فى حين أنها صراعات سياسية بالأساس، مردفا أنه فى ظل منظومة الأفكار تلك فإن الفشل المتكرر سيكون نتيجة طبيعية جدا، خاصة بعد تحكم مكتب الإرشاد فى مرسى وتقييد تحركاته بشكل كبير عجز معه عن إدارة مؤسسة الرئاسة، لكن الأهم كما يضيف هو أنه كانت لديه فرصة ذهبية لإنهاء الصراع الجارى قبل بدايته، وذلك بإجراء إنتخابات رئاسية مبكرة تحافظ على المسار الديمقراطى وتحقن الدماء، تماما كما فعل نجم الدين أربكان فى تركيا فى العام 1997 يجيب .. لكن ما منعه منظومة الأفكار التى تحجب القدرة على استشراف المستقبل والتنبؤ بما فيه، فصاحب الأيدلوجيا يرى الأمور من خلالها فقط، ومن ثم تكتسب الصراعات بعدا عقائديا لا مرونة فيه، فيحتمى بتنظيمه متوهما التأييد الإلهى يرى الجماهير المساندة صمام أمان لخياله السياسى المعدوم "، هذه فقرة تستدعى الإشادة والتشجيع. لازال هناك الكثير مما يقال حول هذه المراجعة وبنودها وأفكارها، وهو ما لا تسمح به سطور مقال، لكن الأهم أنها تستحق الإشادة والتشجيع وتستدعى اشتباك عاجل من الدولة وأجهزتها المعنية، ليتسع نطاق تلك الموجة الإيجابية التى ينبغى أن تعزل موجات أخرى سلبية مدمرة، تكاد تحول ما تبقى من تنظيم الإخوان إلى خطر لا يقل بشاعة عن خطر داعش.