فى معرض تحليلها لأسباب وقف واشنطن 290 مليون دولار من المساعدات المقدمة للقاهرة، تراوحت تعليقات الصحف ووكالات الأنباء الغربية على هذه الأزمة فى العلاقات بين البلدين، بين كونها مجرد "زوبعة فى فنجان" لن يكون لها تأثيرات مهمة، وبين اعتبارها "تحول تاريخى مذهل "فى سجل صداقة البلدين، ينهى التوقعات باستمرار شهر العسل بينهما، بعد "الكيمياء" التى وطدت علاقات الرئيسين السيسى وترامب، والتى أنهت 8 سنوات من العلاقات الباردة تراوحت بين الشد والجذب خلال حكم الرئيس الأمريكى السابق باراك أوباما. طبقا لوكالة "رويترز"، فإن سبب قطع 95.7 مليون دولار من المعونة الأمريكية وتأجيل صرف 195 مليون دولار أخرى، يعود إلى استياء واشنطن من إقرار مصر لقانون الجمعيات الأهلية، والذى يعاقب بالسجن 5 سنوات لمخالفيه وبغرامات فلكية تصل قيمتها إلى مليون جنيه، فى اشارة واضحة على تردى ملف حقوق الإنسان فى مصر، فى نفس الوقت الذى أشارت صحف ومراكز بحوث أمريكية أن السبب يعود إلى تنامى العلاقات العسكرية بين مصر وكوريا الشمالية، ورغبة واشنطن فى محاصرة نظام بيونج يانج، الذى تعتبره إدارة ترامب عدوها الأول والأخطر حاليا، والذى يقوم بتجارب صاروخية طويلة المدى يمكنها -كما يقول- حمل رؤوس نووية، ويهدد بإطلاقها على السواحل الأمريكية، ردا على أى هجوم محتمل تشنه واشنطن عليه. ما يثير الانتباه فعلا هو تراجع إدارة ترامب عن تصريحات سابقة قالت فيها إن تدهور أوضاع الملف الحقوقى فى مصر، لن يقف حجر عثرة أمام توطيد العلاقات بين البلدين فى كافة المجالات، أهمها الحرب على الإرهاب والتعاون الاقتصادي وعملية السلام فى الشرق الأوسط، وقد يكون سبب هذا التراجع ضغوط تعرض لها ترامب من داخل الكونجرس وغيره من المؤسسات الأمريكية المعنية بملفات حقوق الإنسان فى العالم، والتى ترى أن إهمال ترامب لملف حقوق الإنسان والديمقراطية فى مصر يهدد مصداقية الولاياتالمتحدة التى تعتبر نفسها زعيمة العالم الحر، ويتعارض مع القيم الأمريكية التي يعبر عنها الدستور الأمريكي نفسه، خاصة وأن كل تقارير المنظمات الحقوقية فى أمريكا وأوروبا أصبحت توجه اتهامات مباشرة إلى السلطات المصرية باتباع سياسات تعادى مفاهيم حقوق الإنسان، وتضرب العديد من الأمثلة على ذلك منها قولها بوجود أكثر من 60 ألف معتقل فى مصر، وبناء 16 سجنا جديدا لاستيعاب هؤلاء المعتقلين، والتضييق على حرية الصحافة والرأي والتعبير، وإصدار قوانين تخنق العمل الأهلي والمنظمات غير الحكومية، وإشاعة مناخ من الخوف للتضييق على العمل السياسى المعارض! قرار إدارة ترامب بشان المساعدات المقدمة لمصر، الذى يعانى من مصاعب داخلية كبيرة، كان متوقعا بعد جلسة الاستماع التى عقدها الكونجرس الامريكى عقب زيارة السيسي لواشنطن بيوم واحد، حيث أسفرت المناقشات عن المطالبة بربط المعونة الأمريكية بتحسين أوضاع الحريات العامة وحقوق الإنسان، والتزام الحكم بالمعايير الديمقراطية، ورفض استخدام مصر للمعونة فى شراء أسلحة تستخدم فى الحرب البرية "فى إشارة إلى إسرائيل" لا يوجد أى مبرر لاندلاعها، وضرورة تحويل الجانب الأكبرمن هذه الأموال لمجالات أخرى لمواجهة تردى الأوضاع المعيشية، كما أكدت المناقشات أيضا أن المعونة الأمريكية التى تم تخصيصها لمصر لإغرائها بعدم شن الحرب على إسرائيل أصبح لا مبرر لاستمرارها، لأن مصر الآن هى التى تحتاج إلى تحسين علاقتها بإسرائيل، وليس العكس كما كان الحال سابقا! رد الفعل المصرى كما أعلنته وزارة الخارجية والذى اتهم قرار واشنطن بأنه "يفتقر إلى الحكمة" جاء ليلمح أن الأوضاع الأمنية الصعبة التى تعانى منها مصر وحربها على الإرهاب تبيح لها انتهاك حقوق وحريات الإنسان، وهى حجة واهية لأن يد الإرهاب ضربت فى معظم العواصمالغربية، دون أن تتخذ أى حكومة فيها إجراءات مقيدة للحريات كما هو الحال فى مصر، فى نفس الوقت الذى تجاهل فيه البيان أن تكميم الصحافة لا علاقة له بالحرب على الإرهاب، وتأميم العمل السياسى هو البوابة الملكية التى تعطى المبررات للإرهابيين لتنفيذ المزيد من العمليات، كما أن إغلاق المجال العام وتقييد عمل المنظمات الأهلية، الهدف الحقيقى منه هو بناء دولة الفرد الواحد، والرأى الواحد، وسلب حق الجماهير فى نقد الحكم وسياساته، بل وحقها الدستورى الأصيل فى تداول السلطة بشكل ديمقراطى فى انتخابات حرة نزيهة! الحكمة الغائبة عن بيان الخارجية المصرية هى استحالة بناء علاقات استراتيجية قوية مع الولاياتالمتحدة ، استنادا فقط إلى "كيمياء" تربط بين رئيسي البلدين، والرهان على أن ترامب يمتلك قدرات بلا قيود ولا حدود فى رسم سياسة بلاده الخارجية، أو أنه يستطيع إملاء قراراته على الكونجرس، أو على الصحف وقنوات التليفزيون ب"المشي جنب الحيط"، أو عدم تنفيذ أحكام قضائية باتة، أو حتى مجرد الالتفاف على روح ونصوص الدستور، وليس انتهاك مواده بمنتهى السفور!. إذا أرادت السلطة فى مصر أن تحافظ على علاقاتها الإستراتيجية مع أمريكا، وأن تستمر فى تلقى المساعدات العسكرية منها، فإن سياساتها الحالية فى مجالات الحريات وحقوق الإنسان لن تحقق لها أيا من هذه الأهداف، حتى لو وطدت علاقاتها مع رئيس من نوعية دونالد ترامب يصفه خصومه فى أمريكا بأنه مجنون ومتقلب بلا مبادىء سياسية ثابتة. الأزمة الحقيقة التى تواجهها السلطة فى مصر، ليس اقتطاع ملايين الدولارات من المعونة العسكرية الأمريكية، ولكن فى قدرتها على مواجهة الضغوط الأمريكية خصوصا والغربية عموما لوقف انتهاكاتها المستمرة لقيم الحرية والديمقراطية، وهى الضغوط التى سوف تفرض عليها – إن عاجلا أو أجلا – الإختيار المر بين التضحية بعلاقاتها القوية مع واشنطن، أو المغامرة بفتح باب الحريات، وإجراء انتخابات حرة نزيهة قد تهدد وجودها فى الحكم!