"إنك لا تهتم بما حدث لأن بتلات الورد على شرفتك تشغلك عن كل شيء". بابلو نيرودا شاعر تشيلياني في خضم الأحداث اليومية العادية؛ الركض المتواصل من وإلى العمل. لقمة العيش التي تتباهى بأنّها لن تصلك إلا مغمسةً بالدم. أحداثٌ سياسية كثيرة: قتلٌ هنا، تهجيرٌ هناك، وفوق كل هذا قنواتٌ تحريضية. يصبح الجميع أعداءك فجأة، تصبح وحيداً، جيرانك يضحون ألد الوحوش، النظام قاتل مدمّر، الأرض التي تقف عليها تحترق بنارٍ أنت لا تراها. فقط أميرٌ ثري –خبيءٌ في مكانٍ ما- يريد أن يجعلك تقود حرباً ضروساً تجاه كل ما تحب، ومن أحببت وحتى من اعتبرت جزءاً من حياتك اليومية. في خضم كل ذلك لا تنسى نفسك. غريبٌ هو هذا النقاش الأزلي، كيف يمكن لإنسان أن يتذكّر كل شيء، وينسى نفسه. يحاول الإنسان ككائنٍ اجتماعي أن يفرض هيمنته على ما حوله، ومن حوله. يحاول تطويع الطبيعة، تدريب البشر على ما يريد، وفوق كل هذا يحاول أن يرسم معادلاته على كل شيء. من هنا أتت الحروب، هنا بدأت أولى فصول العذاب البشري. لماذا يقول البشر نعم أو لا؟ ما هي احتمالات أن نكون كما نحب أن نكون مقارنةً بما تحب "الجماعة/المجتمع/البيئة" أن نكون؟ "قص" شعرك هكذا؛ ارتدِ ثيابك بهذا الطريقة؛ كل هذا لا يأتي دون وعيدٍ وتهديد: إفعل ذلك وإلا تصبح خارج الموضة؛ إفعل ذلك وإلا سُخِّرَ منك. هناك في النهاية شخصٌ يسيطر على هذه الحشود، التي سرعان ما سنصبح مثلها. في المحصّلة يرتقي العقل البشري شيئاً فشيئاً ولكن الغرابة أن العقل البشري لطالما تطوّر وحيداً، أي أن الإنسان داخل المجموعة لربما لشعوره بعدم الحاجة للتفكير كثيراً، فضلاً عن شعوره المطلق بالأمن يرفض التفكير خارج حدود الجماعة أياً كان نوعها. من هنا نلاحظُ دائماً بأن الجماعات ذات العقل الجمعي الواحد لاتخرّج مبدعين، بل تستورد فحسب. يمكن الاستشهاد بهذه الفكرة على جماعاتٍ أصيلة في المجتمعات العربية كالإخون المسلمين مثلاً، إذ لم تخرّج الجماعة أي "مبدعٍ" من طراز عالمي من رحم الجماعة في حدِّ ذاتها مثلاً. بل استوردت معظمهم من مؤسساتٍ أخرى، أو حتّى من أنظمة بشريةٍ "فردانية"، فسيد قطب مثلاً هو مفكرٌ فرداني وسواه وسواه. في الإطار عينه تحاول تلك الجماعات أن تضمّك إليها، ولأنك "عادي" فهذا أقصى ما تسعى إليه هي، وأنت دون أن تعلم. فالانضمام لجماعة –أي جماعة- كالإنضمام لشلةٍ إبان طفولتك، او لفريق كرة قدم، أو حتى لفتيةٍ من شارعٍ واحد: إنه يعني ألا تبقى وحيداً، ألا تشعر بالخوف، وأن تستفيد من إمكانيات المجموعة/الجماعة بكل ما فيها وبحسب اقترابك من المصدر أو ابتعادك عنه. باختصار تسعى الجماعة أن تقوى بك، وأن تقوى بها؛ في الوقت عينه، تطحنك الجماعة بكل ما أوتيت من قوة: تجعلك نسخةً شبيهة بأقرب مستنسخٍ عنك فيها. هناك نقطةٌ تحكى دائماً عن الأحزاب الشمولية (وهي شبيهة بكل الأحزاب والحركات في بلادنا) أنّه في مراكز الأحزاب الرئيسية هناك شيءٌ يدعى ب"ماكينة الحزب" وهي عبارة عن آلةٍ يدخل إليها الفرد مواطناً، عادياً، يشبه أي كائنٍ في بلاده، ليخرج منها حزبياً، لا يشبه إلا سكان حزبه أو حركته أو جماعته. تلك النكتة السمجة للأسف تجعلك تفكّر أنه لربما أنت تنسى نفسك. في طريق عودتك إلى المنزل، يومياً: لا تنسى نفسك. الأسعار المرتفعة لكل شيء هي جزءٌ من اللعبة، ألا تفكّر في أمرٍ غير "القدرة على البقاء حياً" و"مواصلة الطريق" مهما حدثت من متغيّرات هي سمة أساسية في هذه الحياة التي يراد لك، كما لنا، العمل ضمنها. إنها نمطية أن تمنع من التفكير إلا فيما يعنيك. نجح المجتمع الأوروبي مثلاً في خلق تلك المنظومة وإن في إطار أعم: قد تحدث جريمة قتلٍ في الشارع، ولا يتدخل أحدٌ من المارين، لايعتبرون أن الأمر يعنيهم، هم يبررون الأمر بأن هناك "شرطةٌ" في المنطقة، وليس هناك من حاجةٍ لتدخّلهم. أضف إلى ذلك أن القانون "حادٌ" في ذلك: "من طلب منك التدخّل؟". في المقابل يقدّم النظام الأوروبي بدائلاً كي لايشعر المواطن أنه غير محمي. في بلادنا هناك سعيٌ حثيث للقضاء على ذلك الشعور اليومي المسمى بالمروءة، تحت مسميات كثيرة من بينها أن الخير مع الآخرين –ممن لا تعرفهم- لايفيد. ككثيرٍ من القصص التي تروى يومياً، عن الشخص الذي ساعد سيدةً عجوز كي تقطع الشارع، ليتضح أنها إرهابية تخفي قنبلةً تفجرهما معاً، أو الرجل الذي يطعم أحد الشحاذين يومياً، ليتضح أن هذا الشحاذ عميلٌ لمخابرات أجنبية، وسواها من القصص المركّبة أساساً على مبدأ: لا تساعد الغير، لا تفكّر بأحدٍ إلا بنفسك فحسب. في المحصّلة: تأتي أشياءٌ كثيرةٌ كي تجعلك تنسى نفسك، كي "تذوب" في أمرٍ ما. لا تذب. اجعل نفسك مفيداً في مكانك، اجعل نفسك مختلفاً، إجعل نفسك: أنت.