لم تبدأ المأساة العربية الفلسطينية بحدوث النكبة، بل ثمة سلسلة طويلة ومعقدة من السياسات الاستعمارية البريطانية والصهيونية اُقيمت على الأرض بتحالف ودعم ما يُسمى اليوم "المجتمع الدولي"، الذي كان وقتها يسمى "عصبة الأمم"، ومكوناتها التي غلبت عليها حاليا الدول الاستعمارية الكبرى، بالإضافة إلى تخاذل وتغافل وضعف وانهيار الحكم التركي تدريجياً، ودور كارثي عميل نفذته أنظمة عربية حليفة للاستعمار. الحديث عن النكبة والقاعدة العسكرية المتقدمة للاستعمار (الكيان الصهيوني)، لا يمكن أن يستقيم دون تناول أدوار جميع أطراف الظاهرة، على رأسها الشعب الفلسطيني، الذي يغيب دوره عن "السردية التاريخية" الرسمية للأنظمة العربية ، صاحبة المصلحة في أن تصوّر لمواطنيها أن الفلسطينيين بادروا إلى الاستسلام من قبل النكبة وبعدها في مقابل اندفاع "العرب" إلى نجدتهم في حرب 1948. الثورة الفلسطينية الكبرى 1936 باستمرار الهجرات الصهيونية إلى الأراضي الفلسطينية، التي بدأت في العقدين الأخيرين من القرن 19، مروراً بوعد بلفور 1917، وتصاعدها برعاية الاحتلال البريطاني منذ 1920 (تاريخ بداية الانتداب البريطاني على فلسطين، الذي تم الاعتراف به دولياً عام 1922)، اكتملت أركان المشهد بوصول معدلات الهجرة إلى كثافة غير مسبوقة في بداية ثلاثينات القرن العشرين وخلال النصف الأول من هذا العقد، فضلاً عن تصفية سلطات الانتداب عام 1935 القائد عز الدين القسام ومجموعته العسكرية (العُصبة القسامية)، الذين كانوا طليعة للحركة الوطنية المسلحة المناهضة للاستعمار في عموم الشام لا في فلسطين وحدها. تكوّنت مجموعة جديدة لمقاومة الاحتلال البريطاني وردع الهجرات الصهيونية بقيادة فرحان السعدي، وفي أبريل 1936، اشتبكت مع عناصر صهيونية مسلحة على طريق نابلس – طولكرم، وأوقعت منهم 3 قتلى، وفي اليوم التالي، قتلت العصابات الصهيونية مواطنين عربيين بالقرب من مستوطنة بتاح تكفا، فثارت الكتلة السكانية العربية في يافا وتل الربيع (تل أبيب صهيونياً)، واتسعت المواجهات، وأعلنت سلطات الانتداب الأحكام العرفية وحالة الطوارئ، فانضمت الأحزاب والقوى الشعبية الفلسطينية إلى التظاهرات، وأصبح وقف الهجرات الصهيونية المطلب الشعبي الأول بعدما كانت ترفعه تظاهرات شعبية متناثرة، وبادرت الحركة الشعبية الفلسطينية إلى الإعلان عن إضراب عام في كامل الأراضي الفلسطينية، ثم اتجهت إلى بلورة قيادة لها فيما اُطلق عليه "اللجنة العربية العليا"، التي تبنت تنظيم الإضراب وتشكيل لجان تنظيمية له، مع رفع وإعلان مطالب الشعب الفلسطيني في مواجهة الاحتلال، وفي مقدمتها، وقف الهجرات الصهيونية ومنع نقل ملكية الأراضي العربية إلى اليهود، نجح الإضراب في شل مناحي الحياة كافة، بالإضافة إلى تصاعد الهجمات على المستوطنات الصهيونية، وبعد بدايته بنحو شهر، أعلنت القيادة الامتناع عن دفع الضرائب لسلطات الانتداب في مقابل تجاهل مطلب وقف الهجرات، وفي الريف والأطراف، نظّمت مجموعات العمل العسكري نفسها بالتدريج، واستهدفت خطوط السكك الحديدية، على رأسها المتجه إلى حيفا ومطار اللد، واضطر الاحتلال البريطاني إلى استخدام المدرعات في تأمين خطوط المواصلات، ثم اضطر إلى تدريعها ضد الألغام مع تزايد خسائره، ونجح الإضراب العام نجاحاً ساحقاً تواصل لستة أشهر. بتصاعد العمل الثوري العسكري والخسائر البريطانية الكبيرة، والموقف المتراجع عسكرياً للعصابات الصهيونية المتحالفة مع الاحتلال وفي طليعتها عصابة "الهاجاناه" وانحسار قدرتها على حماية الأرض المغتصَبة (المستوطنات)، نجح الاستعمار البريطاني في استخدام الممالك الرجعية العربية، كما يستخدمهم الاستعمار حتى الآن بكل أريحية وسلاسة؛ لتوجيه نداء "عربي" إلى الفلسطينيين لوقف الثورة من الأسر الحاكمة لتلك الممالك، وقتها كان فيصل الثاني في العراق، وعبد العزيز آل سعود مؤسس مملكة آل سعود، وعبد الله الأول أمير شرق الأردن ، باعتبارهم حكاماً عرباً ومسلمين ذوي وزن قَبَلي وعشائري عربياً؛ كي يقيمون وساطة بين الثوار العرب المسلمين وبين الاستعمار البريطاني صديقهم، حتى نجح النداء الملكي العربي في وقف الإضراب الفلسطيني الكبير مؤقتاً، وكانت تلك الفترة المؤقتة كافية لتعلن لجنة تحقيق بريطانية تقسيم فلسطين إلى دولتين؛ واحدة للعرب وأخرى للصهاينة، على أن تبقى الأماكن المقدسة تحت الانتداب البريطاني. الثورة المضادة.. الدور العربي والحسم العسكري البريطاني استغل الاحتلال البريطاني فترة الهدنة التي رعاها الملوك العرب أفضل استغلال، وبعودة الثورة اعتراضاً على توصيات اللجنة البريطانية بالتقسيم واغتيال الحاكم البريطاني لمنطقة الجليل، كانت قوات الاحتلال وأجهزته على جهوزية كاملة لقمع الثورة عسكرياً وسياسياً باعتقال أو نفي أو إبعاد قياداتها، ما أدى إلى انهيار القيادة الثورية "اللجنة العربية العليا"، ورغم ذلك، اشتد عود الثورة المسلحة باتساع مجال وتأثير عملياتها العسكرية إلى الحد الذي سيطرت فيه بقوة السلاح والأمر الواقع على قطاعات كاملة من البلاد وأدارتها، بالتوازي مع تصعيد قيادات بديلة للقيادات التي تم اعتقالها وفقدان الانتداب للسيطرة على تلك القطاعات والانسحابات المتتالية لقواته على الأرض، فضلاً عن رد فعل المحيط الحيوي الطبيعي لفلسطين بتشكيل لجنة مركزية في سوريا ولبنان لدعم الجهود العسكرية للثورة هي "اللجنة المركزية للجهاد في فلسطين"، مركزها دمشق وتولاها القيادي أمين الحسيني مفتي القدس، الذي اضطر للخروج من فلسطين بيد الاحتلال، وحاولت اللجنة، وثيقة العلاقة بحزب الاستقلال الفلسطيني ذي الاتجاه القومي العربي وكذلك بالحزب العربي الفلسطيني، إدارة وتنظيم العمل الثوري المسلح في الداخل من الخارج، وأثمرت جهودها القيادية التنظيمية عن تطوير للعمل العسكري، رغم الخلاف بينها وبين العديد من القادة الميدانيين بالداخل. اضطر البريطانيون إلى زيادة الإمكانات العسكرية؛ فشهد الميدان الفلسطيني تصاعدا كثيفا للتسليح البريطاني كماً وكيفاً، وعدداً على المستوى البشري، واضطروا إلى استقدام خيرة قيادات جيشهم إلى البلاد، على رأسهم القائد العسكري مونتجمري، الذي تولى قيادة الفرقة الثامنة من الجيش هناك في أكتوبر من عام 1938 في مهمة خاصة هي سحق الثورة، وفّرت الإمدادات الجديدة وتعاظم الإمكانات قدرة للإنجليز على "إعادة إحتلال" شِبه كاملة لأغلب قرى وبلدات فلسطين وتمشيطها، بالتوازي مع اعتماد مونتجمري على سياسة عسكرية كان لها دور رئيسي في هزيمة الثورة، وقامت على منهج شمل القتل الفوري للعرب المقاتلين بلا أسْر، وحصر القيادات الرئيسة للثورة والذين يتلقون التوجيه والدعم من القيادة الأعلى في دمشق وتحديد مرتكزاتهم وعديد من معهم من قوات، والمبادرة بالبحث عن القيادات الميدانية الفلسطينية الأدنى وتصفيتها وقائياً، ودعم تسليح المستوطنات الصهيونية التي تحميها العصابات التي كانت مسلحة بالفعل، والتركيز على ترهيب الأهالي من الفلسطينيين وهم الحاضنة الشعبية للثوار وتوعدهم بالقتل الفوري حال تعاونهم مع الثورة، بالترافق مع ترغيبهم بالتطمين والمعاملة الحسنة الهادئة ظاهرياً. نجحت عمليات التمشيط وإعادة الاحتلال البريطانية، بالإضافة إلى التكتيك العسكري الذي وضعه مونتجمري وتبنته باقي الفرق، في إنهاء الثورة الوطنية الفلسطينية الكبرى بتعاظم خسائر قواتها، لا سيما في ظل تزايد قوة أحد مكونات المعسكر المضاد لها وهي العصابات الصهيونية، التي تزايد جلبها للعناصر المقاتلة الجديدة خلال أعوام الثورة (من 1936 إلى 1939)، وتطوّر تسليحها بفضل الثروات الصهيونية المتدفقة من أوروبا وبفضل اعتمادها بخصوص التسليح على الاستعمار البريطاني، الذي زوّدها بأسلحة حديثة أكثر تطوراً من السلاح الذي كان يستخدمه الفلسطينيون، ورغم البراعة التي أثبتتها قوى الثورة في نمط "حرب العصابات" في مواجهة العصابات الصهيونية والقوات النظامية البريطانية، إلا أن تكامل الطرفين العدوّين والتنسيق العضوي بينهما، أي جيش نظامي مع عصابات عديدة متنوعة متزايدة الحجم البشري والإمكانات، قد كفل سقوط تلك الثورة وانحسار قواها.