يحكى أن أميرًا مغوليًّا يدعى «ناغو» كان معارضًا شرسًا لمجيء هولاكو حاكمًا على المغول، فلما أتى هولاكو خاف الأمير على منصبه كثيرًا، فأعلن من خلال رسالةٍ وجهها إلى الخان الأعظم قال فيها: إني ناغو كاخ «أي الصغير وهي عكس خان أي العظيم أو الملك»، أتقدم بنفسي وبقبيلتي وشعب إمارتي إليكم ببالغ العطف، وإني أطالب بأن تسيطروا على إماراتي كهديةٍ مني إليكم، وإني أتعهد أن أجلس في الظل لأنكم أنتم النور المطلق. مزق هولاكو الرسالة، نظر إلى حاملها، وقال لحاشيته: اقطعوا رأسه، فهذا ليس حامل رسالة، هذا ناقل كذب، ثم توجهوا بالجيش إلى إمارة ناغو، لا تحدثوه ولا تتحادثوا معه، اقتلوه وكل عائلته. لا شيء يفاجئ في وثيقة حماس السياسية التي أعلنتها الحركة قبل أسابيع قليلة إلَّا أنَّ الحركة باتت تختلف اختلافًا جذريًّا عن بنيتها الأولى منذ ولادتها في تسعينيات القرن الفائت. الحكمة المقتضاة أن الحركة ستبقى «مقاومةً» باتت أقرب إلى «المخيال» الأدبي والشعبي منه إلى الحقيقة الواقعية. تعلن الوثيقة صراحةً موافقة الحركة على قيام دولة على أراضي العام 1967، هذه الفكرة التي لطالما «كفّرت» الحركة عينها كل من نادى أو تحدّث أو حتى طالب بها، باتت أبرز سمات هذا الاتفاق. الأمر الآخر اللافت هو أنَّ الحركة حاولت ذر الرماد في العيون من خلال جملٍ خلبية من طراز: لن تعترف الحركة بإسرائيل، أو لا للتنازل عن أي جزء من أجزاء فلسطين. السؤال المنطقي الكامن: كيف يمكن الموافقة على دولة على دولة فلسطينية على حدود العام 1967 دون الاعتراف المنطقي والمنهجي بالكيان الصهيوني المحتل. لم يكن من الممكن المرور كرامًا على فكرة «الاعتراف» الضمني بالكيان العبري هذا، إذ كيف يمكن التعامل مع جيش يمتلك دولة قائمة أصلًا على فكر «احتلال أرض الغير»، إن ما قامت به حماس من خلال وثيقتها الجديدة ما هو إلَّا تظهير للفكرة القائلة: بأن إسرائيل موجودة ولا نستطيع أن نقوم بأي أمر من شأنه القضاء عليها وإزاحتها. هذه الفكرة كانت القضية المركزية التي تحصّنت حولها حماس خلال سنوات معارضتها لحركة فتح «ومنظمة التحرير الفلسطينية ضمنًا»، ناهيك عن أنَّ الحركة اعترفت وبعد مماحكات كثيرة في هذه الوثيقة بأن «منظمة التحرير» هي إطار وطني يجب المحافظة عليه، إذًا لِمَ كانت هذه الصراعات طويلة الأمد التي خلّفت ملايين الندوب على الجسم الوطني الفلسطيني؟ إذا باختصار ليست حماس هي حماس ذاتها بعد الوثيقة. أمرٌ آخر يجب الإشارة إليه والوقوف عنده، لماذا أراضي ال67؟ أي لماذا لم يبق الأمر على ما هو عليه ضمن الأدبيات الفلسطينية التحررية الأصيلة: فلسطين من البحر إلى النهر؟ لِمَ هذا التراجع؟ هل هو مراعاةٌ للقوانين الدولية؟ هل هو مراعاةٌ للوجود الصهيوني بحد ذاته؟ أم أنه ببساطة محاولةٌ للدوران حول فكرة «تحويل غزّة إلى شبه دويلة رسمية» معترف به دوليًّا وعالميًّا؟ هذ الأمر الأخير هو لربما من الأساسيات التي تسعى الحركة إلى الوصول إليها: وبأي الطرق كانت. تستميت حركة حماس منذ تسلّمها للسلطة في غزّة بعد انقلابٍ سريعٍ وكامل صيف العام 2007، ومنذ ذلك اليوم وحتى اللحظة لا تزال الحركة تسيطر على القطاع الفلسطيني المحاصر «حتى لربما يمكن وصفه بأنه أكبر سجن في العالم، إذ ليس هناك أي منفذ (مفتوح) فيه بشكل مطلق على العالم إلَّا عبر بواباتٍ معقدة الولوج». بعد السيطرة على القطاع كما أشرنا بدأت الحركة بمحاولة بناء منظومتها الحلم: التخلص من المعارضين، التخلص من أنصاف الحلفاء، الحصول على معونات وتأييد دولي لحماية مكتسباتها. لعبت أحداث ما سمي بالربيع العربي دورًا كبيرًا في تعزيز الحلم، هذا بالنسبة للحركة الإسلامية المنبثقة من رحم حركة الإخوان المسلمين «المصرية بدايةً»، إذ أتى تولي الرئيس المصري المخلوع محمد مرسي سدة الحكم بمثابة «كنزٍ» للحركة، فنشطت وتفاعلت، كذلك كان وجود رجب طيب أردوغان حاكمًا فعليًّا لتركيا درعًا واقية في كثيرٍ من الأحيان. باختصار كان عصرًا ذهبيًّا للحركة، لكن دوام الحال من المحال، سقط مرسي، وانشغل أردوغان بالأزمة السورية التي أيدها بكل قواه، حتى إنه جرّ الحركة إلى أسوأ مستنقعاتها وأخطائها حتى اللحظة: التدخل في الأزمة السورية. رفع خالد مشعل علم ما يسمى بالثورة السورية فوق رأسه في إحدى المناسبات، الأمر الذي سرعان ما برره لاحقًا بأنه أخطأ في العلم، لكن هذا الخطأ غير المقصود بحسب كلامه، كان مقصودًا بحسب العارفين بالأمر. كانت الحركة قد غاصت في مستنقعات تستهويها. كانت تريد الحفاظ على «قطاعها» إمارةً كما تحلم. سقوط مرسي وتردي العلاقات مع النظام المصري الجديد، أدى بالحركة إلى الانكفاء، وأدى الأمر إلى تردي الأوضاع الداخلية: الماء الكهرباء وكل ما إلى هنالك. لعبت الحركة من جهةٍ أخرى على العلاقة المتردية بين طرفي فتح الأقويين: أبو مازن «محمود عباس» رئيس السلطة الفلسطينية والزعيم الأوحد لمنظمة التحرير، وأبو فادي «محمد دحلان» عدو حماس الأبرز في غزّة «وصاحب الفيديو الشهير: هياني طخوني (ها أنا هنا فلتطلقوا النار علي) والذي قاله إبان تظاهرة في غزّة قبل انقلاب حماس العام 2007»، والذي أضحى لاعبًا بارزًا في الرؤية العربية لفلسطين. باختصار حاولت الحركة تعويم مؤيدي الدحلان في القطاع، لكن الأمر حتى اللحظة لم يؤتِ أكله. عربيًّا باتت كثيرٌ من الدول العربية (وعلى رأسها السعودية) تنظر إلى الحركة نظرة شك وريبة وباعتبارها حركة «باطنية»، تبطن ما لا تظهر، فضلًا عن أنّها تتدخل في شؤون لا تعنيها، وما موقفها مما حدث في سوريا إلَّا درسٍ رئيسي تنبهت له أغلب دول الخليج، التي وضعت شروطًا «قاسية» على دخول أي من «رعايا» حماس أو «قياداتها» إليها. هنا لم يكن أمام الحركة إلَّا «السيبيكو» «الانتحار بحسب الطريقة اليابانية». كانت الوثيقة أشبه بسيبيكو فلسطيني للحركة، قد يبدو الأمر جميلًا وشرفيًّا، لكنه ليس كذلك البتة: أعلنت الحركة أنها ترضى بالاعتراف بدولة على حدودٍ وهمية، مقابل جيش احتلال لا يعترف بأي مواثيق أو أعراف أو قوانين. صحيح أنها أعلنت أنها تريد المقاومة وسبل المقاومة مشروعة بكل الوسائل، لكنها أيضًا ألغت أن «الكفاح المسلّح» هو السبيل الوحيد لتحرير فلسطين. بمنطقية، لا تبدو الوثيقة أكثر من رسالة «استجداء» و«عطف» من أصحاب إمارةٍ لقادة العالم أن «اقبلونا يرحمكم الله، ونعدكم بأننا سنكون أولادًا مطيعين من الآن فصاعدًا.